ثقافة
24.05.23

 نعيٌ لآخر ملامح السينما في بنغازي

وداعًا سينما برنيتشي

مما لا شك فيه أن قبح الحروب يشوه وجوه حتى أجمل المدن، وأن لا شيء أقسى على ابن المدينة من التجول في شوارعٍ، ما بات يقطنها سوى الحيوانات المشردة والأشباح ربما، إلا أننا رغم ذلك نختار التشبث ببصيص أمل يلوح لنا متجسدًا في معالم المدينة القديمة الباقية حتى وإن كان بقاؤها صوريًا، متمثلاً في هياكل عمرانية صمدت في وجه أهوال الزمن، وبقيت ثابتةً رغم آثار الحروب...

كذلك هو الحال في مدينتي بنغازي، مدينة الغضب والثورات، والحب والطيوب...مدينتي التي احتضنت حضارات الروم الشاهقة يومًا، ولم تضق أرضها على أحد، التي عبثت بها الحروب الأهلية، وتكالب على سبيها لصوص الياقات البيضاء، وتنازع الساسة لفرض سطوتهم عليها، إلا أن شيئًا من وهج سحرها الأخاذ بقى حيًا رغم أنف الظروف، وكان من شأن طقس التجول في شوارعها رغم ذلك، أن يبقي على اتقاد جمال ماضيها في ذاكرتنا..

ولعل من أهم المعالم البنغازية التي وطدت علاقتنا بالمدينة "مبنى سينما برنيتشي"، أو المسرح البلدي ببنغازي، القبلة الأولى لكل محبي السينما قديمًا، ملاذ العشاق الذي عاشوا فيه مواعيدهم السرية حين لم يكن ثمة في البلاد أماكن تسمح لهم باللقاء، المسرح الذي كان حاضنًا للفنون كافة والذي أحيت على خشبته الست "أم كلثوم" حفلها الشهير في 14 مارس 1969.

المسرح الرئيسي للمدينة، الكائن بشارع عمر المختار، صُمم من قبل المعماري الإيطالي الشهير مارشيلو بياتشنتيني، أشرع المسرح أبوابه لأول مرةٍ عام  1928، وكان شاهدًا تاريخيًا هامًا على تبلور الفنون في المدينة، وتكوّن علاقة الليبيين بها، أقيمت على خشبته عروض مسرحية وموسيقية أوروبية متعددة. واستمر في العمل حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي خلفت دمارًا واسعًا في المدينة بسبب الغارات الجوية الفاشية، ليتعرض بعدها للإهمال والهجر، حتى أواسط الخمسينات حين تم تحويره بشكل تام، ليتحول رسميًا لدار سينما عُرفت باسم "سينما برنيتشي" أو "سينما برنيق". واستمر كذلك حتى أواخر الثمانينيات ليُغلق المبنى لاحقًا إثر هرطقات العقيد الراحل الذي اعتقد بأن من الواجب الوطني علينا كليبيين أن نقاطع السينما لأنها شكل مروع من أشكال "الغزو الثقافي".

حطام الذكريات، ورحيلٌ صامت لآخر ملامح السينما بالمدينة

واستمر الحال على منواله لحين أمس قريب قررت فيه السلطات بالشرق الليبي تدشين حملة لإعادة إعمار البلاد باشرت على إثرها عمليات إزالة لمجموعة من المباني المتضررة جراء الحرب في مدينة بنغازي، متغافلين بذلك عن تاريخ بعضها الذي يمثل جزءًا لا يتجزأ من هوية المدينة، مثل فندق قصر الجزيرة، والمصرف الوطني، سوق الربيع وأخيرًا مبنى سينما برنيتشي، وبعيدًا حتى عن الشرخ العاطفي الذي أحدثه هذا المسح "الأعمى" لبعض أهم ملامح المدينة، إلا أن الأمر مُعابٌ حتى على الصعيد القانوني إذ أن بعض هذه المباني محميٌ بموجب قانون رقم 3 لسنة 1423 والذي ينص على حماية المباني التاريخية القديمة. والأمر الأكثر ريبةً بشأن هذا كله، هو اكتناف هذه العمليات بشيءٍ من الغموض والتعتيم، إذ لم تكشف أي جهة رسمية في بنغازي أية تفاصيل توضيحية عن عمليات الهدم، والتزمت "لجنة إعادة الإعمار والاستقرار" صمتًا مُشينًا حيال ما يجري، ولم تظهر لحد اللحظة أي معلومات أو خرائط أو صور رسمية عن الإزالات.

ما المقصود بإعادة الإعمار؟

ووسط كل هذه الغوغائية البائسة التي حلت قدرًا حزينًا على المدينة بانطفاء آخر أنوار الأمل بعودة قريبة حقيقيةٍ للسينما في المدينة، يجد المرء نفسه متساءلًا عن مدى جهل المخولين بإعادة الإعمار بفهم معنى الإعمار!

يُعرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الإعمار: "عملية تعافي، تسمح بعودة مسار إنمائي طبيعي للدولة."

 كما تعد إعادة الإعمار وفقًا للمواثيق الدولية بأنها عملية ترميمية بالدرجة الأولى، خوفًا من خسارة التراث الثقافي، وقد وُضع ميثاق البندقية 1964 وقبله ميثاق أثينا 1931 لغرض تفادي الخسائر الفادحة التي قد تنجم عن محاولات الإعمار بالمسح، إذ أقر في الميثاقين مبادئ ومناهج تٌعنى بترميم الأوابد التاريخية بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، لحقهما ميثاق واشنطن 1989 الذي ينص على حفظ المدن التاريخية والمناطق الحضرية، والذي يُجرم المساس بمعالم المدن الثقافية وشواهدها التاريخية.

تساؤلات مؤرقة عن جدوى الإزالة العبثية

بالنظر لكل ذلك يمكننا أن نصف عملية الإعمار بأنها طيف من أطياف الأنثروبولوجيا بوصفها منتجًا اجتماعيًّا خلق ليلبيّ حاجة الإنسان اللحوحة للتطور، لازمًا لحضارات الشعوب، امتدادًا لإرثهم التاريخي، انعكاسًا لهوياتهم الثقافية، وقيمهم الخاصة، فهل وضع القائمون على إعادة الإعمار هوية بنغازي الثقافية بكل مكوناتها العمرانية والاجتماعية نصب أعينهم؟ هل أخذوا فعلًا بعين الاعتبار البعد الاقتصادي والانتاجي لعملية إعادة الإعمار هذه؟ أثمة رؤية استراتيجية واضحة ترسم خارطة الطريق التنموي؟ وهل توقفوا قليلًا قبل إقبالهم على عمليات الإزالة بحماسةٍ مفضوحة ليقفوا على أطلال إرث "وسط البلاد" المترامية على "بحر الصابري" الحزين، ويستحضروا أوج ماضٍ كانت فيه المدينة قبلةً للفن ووجهة أولى لعشاقه، ألم يذرفوا بعض الدمع على كل التاريخ الذي اختاروا تقديمه كبش فداءٍ لوحش الحداثة الأعمى؟

ويبقى التساؤل الأكثر إلحاحًا من كل هذا، أن كيف يمكن أن يؤتي هدم العمران الحاضن للفنون والتاريخ أُكله عمارًا؟

مقالات ذات صلة