الجزء الثاني من تقرير إيمان السنوسي عن أبعاد التمييز\الإبادة اللغوية.
كيف تؤثر سياسة أحادية اللغة على الأطفال في ليبيا؟
تجربة الدراسة ربما تكون من أكثر التجارب إيلاما لأطفال الأقليات في ليبيا، فحين يكبر الطفل وسط بيئة ذات خصائص لغوية وثقافية محددة، سيتشبع بها بداهة، ويكون عالمه الصغير متمحورا حول هذه البيئة المألوفة لديه. ومن ثم؛ وفي سن السادسة يفاجأ الطفل ببيئة مختلفة تماما. ومن المعروف تماما بأن تجربة الدخول للمدرسة تكون قاسية على معظم الأطفال، لكن تخيل نفسك منتزعا من بيئتك الصغيرة المألوفة وملقًى فجأة في وسط لا تألفه ولا تفهمه، حيث تفقد كطفل صغير فجأة قدرتك على التواصل أو الاعتراض أو إبداء الغضب أو التفاعل مع الأطفال الآخرين، كما قد تجد نفسك عرضة كذلك للتنمر والأذى لعدم قدرتك على الوقوف موقف الدفاع عن نفسك في عالم جديد لا تتقن لغته، ولا تفهم قوانينه.
ويتطور الأمر مسببًا "قلق التواصل" أو ما يسمى بـ Intercultural communication anxiety والذي يحدث بسبب/يترافق مع الخوف من سوء الفهم، والخوف من السخرية العلنية والتنمر، أو نظرة الأقران للطفل، والعزلة الاجتماعية، وتقويض التواصل مع الآخرين حيث تصل النسبة بحسب دراسة متخصصة إلى 52%، وهو ما يضعف فرص خلق علاقات اجتماعية بين الأطفال من خلفيات ثقافية مختلفة، ويقلل من فرص قبول الآخر.
وبحسب البنك الدولي؛ فإن 50% من الأطفال المتسربين من المدارس من حول العالم هم ممن تستخدم لغاتهم بقلة في النظام التعليمي والمدارس؛ أو لا تستخدم على الإطلاق. كما يؤكد البنك الدولي أيضًا بأن استخدام لغات الأقليات لأطفال المدارس من سن 6 - 8 أعوام تكون نتائجه باهرة؛ حيث تعزز الثقة بالنفس، وترسخ نظرة إيجابية نحو الذات، كما ترفع من المستوى الدراسي ومن المشاركة في الفصل الدراسي، والتفاعل في اللعب الجماعي؛ م ما يقلل بشكل كبير من التسرب الدراسي.
وفي حوار مع مريم علي -معلمة للمرحلة الابتدائية- في إحدى المناطق المتأثرة بالنزاعات الأهلية ذات الخلفية العرقية؛ تقول: "لاحظت بأن الأطفال الذين لا يتقنون العربية قليلو المشاركة جدًا، كما أنهم يفتقدون للثقة بالنفس عن سؤالهم رغم أنهم في حالات كثيرة يعرفون جواب السؤال المطروح عليهم". وتحاول مريم من خلال عملها دعم ثقة هؤلاء الأطفال بأنفسهم، ومساعدتهم على الانخراط في النشاطات، وتعزيز ثقتهم بكفاءتهم الدراسية، آملة بالتمكن من جعل تجربة المدرسة تجربة إيجابية.
ماذا ينتظرنا في حال استمرار التمييز اللغوي تجاه الأطفال في ليبيا؟
في المعاهدات الدولية التي تكفل الحقوق اللغوية ترتبط اللغة بأربع خصائص مهمة هي: الكرامة، الحرية، المساواة وعدم التمييز، والهوية. فغياب احترام لغة الفرد، يترافق مع عدم انتهاك كرامته الإنسانية، وانتهاك حريته، وممارسة التمييز تجاهه، وحرمانه من هويته.
وبهذا الصدد، تؤكد البحوث المتخصصة في مجال التمييز اللغوي بأن العوائق اللغوية تحرض أو تستحث النزاعات، وتعمق من الاختلافات كما تؤدي إلى تبني موقف دفاعي عن الهوية الاجتماعية. وكلما ازداد إنكار أو رفض الهوية الاجتماعية للفرد البالغ؛ كلما تبنى هذا الفرد موقفا دفاعيا عن هويته. بينما في الأطفال فإن ما يحدث هو العكس؛ حيث يميل الطفل في هذه الحالة إلى إعادة تقييم هويته الاجتماعية؛ واعتبارها دونية لاسيما إذا ترافق ذلك مع حرمانه من تلقي ما يعزز انتماءه ولغته. وبالحديث عن ذلك، توصلت بعض الدراسات إلى أن التمييز اللغوي قد يكون عاملًا في ضغوط أسرية محتمل، حيث تترافق النظرة الدونية للذات والهوية واللغة مع ازدراء الاطفال لآبائهم الذين لا يتقنون جيدا اللغة الرسمية (وفي حالة ليبيا العربية)، والنظر لهم على أنهم يندرون من ثقافة متخلفة و/أو أدنى، وهو ما يدفع الأطفال والمراهقين إلى مقايضة لغاتهم الخاصة باللغة الرسمية بهدف الاندماج والنجاح وزيادة فرصهم في المشاركة المجتمعية والنجاح الفردي. وفي عام 1999، جادلت باحثة وناشطة في مجال الحقوق اللغوية "توف كانغاس" وكانت أول من دشن مصطلح "الإبادة التربوية للغة"؛ بأن إقصاء لغة الشعوب الأصلية والاقليات من المنظومة التعليمية ومن استخدامها في المدراس يعيد تشكيل علاقات القوة في الأذهان بين أغلبية مهيمنة (قوية) وأقلية مُهيمن عليها (ضعيفة)؛ وتضيف: "تصنيف الأفراد وفق معيار القوة بناءً على خلفياتهم العرقية يحدد مستقبلهم من حيث التفاوت بين المعاملة التي يتلقونها، وكذلك الفرص التي تتاح لهم."
وفي المدن الكبرى؛ يلاحظ بأن استخدام اللغة الأم يضمحل/يتوقف في غضون جيلين إلى ثلاثة أجيال في أوساط الأسر التي تنتقل من المناطق الريفية إلى المدن، وهي ظاهرة تحدث في معظم دول العالم المتعددة اللغات والثقافات. وفي حالة الهجرة الداخلية في ليبيا من المدن والقرى حيث يشكل "الأمازيغ، التبو، الطوارق" نسبة كبيرة من السكان إلى المدن الكبرى حيث يعدون أقلية قليلة، تؤكد الملاحظات الشخصية التي جُمعت خلال كتابة هذا التقرير هذه النتائج. حيث أكد اثنان من المستفتين -وهما من سكان المدن الكبرى في ليبيا (طرابلس، وبنغازي) صحة هذه الظاهرة. فأكد س. م بأنه -وهو من الجيل الثاني في عائلته المهاجرة داخليا- بأنه حين كان طفلا، كانت عائلته تحرص على منعه من التحدث بلغته الام، وتشجعه على الحديث بالعربية بدلا من ذلك، وأنه لا يتقن لغته الأم جيدا. كما اعترف هو ذاته بأنه سوف يُعلم أطفاله العربية أولا، ومن بعد ذلك سوف يعلمهم لغتهم وثقافتهم الأم؛ وإن كان يعي بأن الظروف الآن "لم تعد كما في السابق". بينما تؤكد ف. م. أيضًا أنها لا تتقن لغتها الأم جيدًا، وكانت تجهل ثقافتها رغم إدراكها لاختلافها في طفولتها، حيث اضطرت للبحث والتواصل مع أقاربها ومتابعة بعض الصفحات ما مكنها من تعلم بعض الأشياء عن ثقافتها، وأنها الآن تدرك حجم المسؤولية التي تقع عليها مع أطفالها.
وبينما تحاول ليبيا بناء نفسها مجددا كدولة متعددة الأعراق واللغات، تكون فيها الغلبة لقيم المواطنة، مع اعترافها المبدئي بتنوعها العرقي واللغوي؛ فإن المسار الاجتماعي لا يبدو أنه ينحو ذات النحو. إذ أن النزاعات الأهلية لازالت تمزق النسيج الاجتماعي، وتنتج المزيد من التحيزات. ففي الجنوب الشرقي؛ تكونت بعد النزاعات المسلحة مدارس عربية فقط، أو مدارس للتبو فقط. بينما في أوال قرب غدامس أنتج الصراع مآس كثيرة ليس أولها وجود مدرسة للطوارق، هذا غير المدارس الابتدائية والإعدادية في عشرات القرى والمناطق في غرب وجنوب ليبيا؛ والتي تكون فيها الأغلبية العظمى لمكون عرقي واحد، واستمرار سياسة أحادية اللغة في التعليم وفي مؤسسات الدولة الرسمية؛ ما يضعف بدوره فرص نشوء جيل ثنائي/متعدد اللغات، قادر على التواصل الفعال وبناء علاقات اجتماعية عابرة للعرق والقبيلة، والسمو فوق دعاة الحرب وشعارات ال "نحن" و "هم" ومناصر لبناء لبناء دولة تعددية وذات تنوع إيجابي.