ثقافة
28.09.22

هل التمييز اللغوي حجرة عثرة أمام جهود بناء السلام بين الليبيين؟ (1)


"لم يكن رفضي بسبب اللغة مرتبطًا في ذهني بكوني أتحدث لغة مختلفة فقط، بل كان الأمر بالنسبة لي هو أن وجودي وهويتي لم يكونا مقبولين."
بهذه الكلمات تصف س. و. تجربتها في العيش في مدينة كبرى ذات غالبية عربية في حقبة نظام العقيد الشمولي، حيث كان استخدام لغات الأقليات العرقية في ليبيا محظورًا قانونًا، كما كان عدم الاعتراف الرسمي بوجود مكونات عرقية غير عربية هو السردية الرسمية فيما يتعلق باللغة والثقافة والديموغرافيا الليبية.

وكدولة ذات تاريخ عريق؛ فإن ليبيا كانت عبر العصور أكثر من مجرد مساحة جغرافية شاسعة. إذ عرفت ليبيا العديد من الحضارات والممالك، وكانت مسرحًا لأحداث تاريخية شتى، وبينما تواترت الأحداث الكبرى، جالبة معها السلام أحيانًا؛ والتوتر التاريخي أحايين أخرى، تشكلت ببطء ليبيا التي نعرفها الآن. أرض متنوعة سكانيًا؛ ووطنًا لعدة شعوب بهويات متباينة تُشكل في مجموعها وعبر تلاقحها الطويل ما نعرفه اليوم باسم الثقافة/ الثقافات الليبية.

غير أن الثراء الثقافي ووجود عدة أعراق وثقافات لا يعني بالضرورة توفر مقومات التعايش المشترك، والترابط المجتمعي. وتجربة س. و.  وغيرها مع التمييز اللغوي تلوح اليوم كتهديد حقيقي لجهود الترابط المجتمعي والوحدة الوطنية.

فما هو التمييز اللغوي؟ ومن يتعرض له في ليبيا؟
لليبيا أربع لغات، إحداها اللغة الرسمية وهي العربية، بينما تعد اللغات الأمازيغية، التباوية، والطارقية لغاتٍ محلية بموجب الإعلان الدستوري لعام 2011. وفي العقود المنصرمة، كانت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة المستخدمة في الدولة مما اضطر المنتمين إلى الأقليات اللغوية إلى التكيف مع حظر استخدام لغاتهم الأم بموجب قوانين الدولة الليبية النافذة.

ووفقا للأمم المتحدة؛ فإن الإبادة اللغوية أو الـ Linguistic genocide -وهو المصطلح الذي استخدمته الأمم المتحدة عام 1948- وعرفته بأنه ما يحدث حين تقوم حكومة ما بحظر استخدام لغة مجموعة عرقية ما في الحياة اليومية وفي المدارس، وفي حظر نشر وتداول المطبوعات المكتوبة بتلك اللغة.

في تقرير نفذته منصة الكل، يقول "يوسف دحمان" بأنه كان يُنكر هويته خوفًا من التنمر من رفاقه، كما يؤكد بأن الكل -الطوارق- كانوا يخجلون من استخدام لغتهم، وهي تجربة يؤكدها آخرون غيره. وتجدر الإشارة إلى أن التمييز اللغوي يُبنى عادة على -وقد يكون مشجعًا على- التحيزات المسبقة تجاه مجتمع أو ثقافة ما، حيث يُصنف الشخص على أنه كذا أو كذا لأنه يتحدث لغة معينة -أو لا يتحدثها-، حيث ترتبط بعض اللغات بوصمات عدة تهدف جميعها للحطّ من اللغة واعتبارها ذات مكانة أدنى كما تلاحظ دراسة بحثية (Lourdes C. Rovira,2008) وهو ما يشجع بدوره العنف الثقافي والهيكلي/المؤسسي تجاه فرد/مجموعة عرقية ما. وعلى المستوى الفردي وكذلك المؤسساتي؛ لا يزال عدد كبير من الليبيين يعتبرون إتقان اللغة العربية  دلالة على المواطنة، وعدم إتقانها يقصي المرء من كونه ليبيًا. وفيما يتعلق بالأقليات العرقية فإن ثمة معيارًا آخر لا يقل أهمية؛ وهو حمل الأسماء العربية في ظل تخبط مؤسسات الدولة المعنية بين حظر وإتاحة التسمية بالأسماء غير العربية.

الحروب الأهلية واللغات الليبية:
تطورت النزاعات المسلحة القبلية/العرقية في مناطق مختلفة من ليبيا نتيجة لظروف مختلفة، لكن المراقب عن كثب لهذه النزاعات سوف يلاحظ بسهولة بأن النزاع لم يظهر على سطح الأحداث فجأة كما يعتقد البعض، بل كان نتيجة متوقعة للعنف غير المباشر الذي يعيشه المجتمع الليبي منذ عقود. ودون الخوض في سياسات الدولة تجاه الأقليات، فإن المجتمعات ذاتها كانت تعيش في عزلة عن بعضها البعض، وتلتقي في مجالات الحياة العامة بشكل محدود.

وفي مدن الجنوب في حقبة القذافي، حيث عاشت الكثرة الغالبية من التبو والطوارق؛ فإن التوزيع الجغرافي في المدن والبلدات يوضح تركز السكان بحسب الانتماء العرقي/القبلي في مناطق بعينها، رغم الاستقرار والسلام الظاهري الذي يعيشه المجتمع، فيما وصفها أحد الكتاب الليبيين بالـ "غيتوات Ghettos" وهو ما استمر وازداد وضوحًا إبان وبُعيد عام 2011. ومع تجدد أعمال العنف والحروب الأهلية، وميل سكان مناطق النزاعات الأهلية إلى السكن في أحياء مشتركة مع أبناء عمومتهم، واعتبار العيش في جماعات أكثر أمانًا (كما هو متبع تاريخيًا في البادية). وهذا التصنيف بين "هم" و "نحن"، وتوارث القصص والتجارب الفردية والأفكار المتحيزة هو ما يلعب دورًا حاسمًا في توارث الحُمية القديمة، وإعادة إحياء التاريخ الشفوي للنزاع؛ جيلًا بعد جيل، ويقوّض مسيرة التمدن.

وبحسب منظمة مجموعة حقوق الأقليات الدولية HRGI فإن "احترام واستخدام اللغات الأصلية يقلل من النزاع ومن فرص حدوثه، ويزيد من فرص الوحدة الوطنية والاستقرار." أما اليونيسكو فتؤكد بأن "دعم وتشجيع لغات الأقليات يقلل من التوتر العرقي، ويعزز التنوع المجتمعي، ويزيد نسبة المشاركة في التنمية من قبل الأقليات."

وفي مجلة التخطيط والسياسة اللغوية، والتي أفردت دراسة منشورة في عددها الصادر في ابريل 2018 لدراسة التخطيط اللغوي في ليبيا منذ العهد الملكي وحتى بداية عهد فبراير؛ فقد لاحظت بأن محاربة لغات الأقليات في السنوات من 1969 وحتى 2011 أدت إلى محاربة التنوع في المجتمع الليبي، وتراجع احترام لغات وثقافة الأقليات.

  • تنويه: سوف ينشر الجزء الثاني من التقرير الأسبوع المقبل.

مقالات ذات صلة