هذا ما رأيناه في إعصار درنة : الجزء الأول

ما قبل الكارثة  

في بادئ الأمر كانت الأخبار تتدوال أن هناك إعصار سيضرب الشرق الليبي وكانت المدينة الأكثر استهدافاً هي مدينة بنغازي، كنا في تراقب ومشاهدة لما سيحدث ولكن لم يكن في توقعنا أننا سيكون الأمر خطيراً بل كما هو معتاد عندنا، ستغرق الشوارع وتغلق الطرقات بسبب البنية التحتية المتهالكة وهو دندن كل فصل شتاء لدينا، فالأمر كان معتاد لدينا . 

في مدينة درنة كانت الأمور عادية جداً، بدأت الجهات الأمنية بالاحتياطات وتكوين غرفة طوارئ رئيسية مع كل الجهات الأمنية والانسانية والتطوعية للعمل بشكل مشترك تأهباً لأي حالة طارئ، تم البدء بإخلاء العائلات والأهالي القاطنين بمقربة من شواطئ البحار خاصة في منطقة الساحل الشرقي ومدخل المدينة الغربي، ثم فرض حظر للتجول خلال يومي الجمعة والسبت قبل يوم الأحد المشؤوم  ليبدأ الحظر من الساعة 8 مساءً بمنع التجول وتقليل الحركة وإغلاق الأسواق والمحلات التجارية . 

وبحكم تواجدي ضمن فريق الطوارئ آنذاك ضمن فرق متطوعي الحركة الكشفية بمدينة درنة كنّا ضمن الغرفة المشتركة للطوارئ في المدينة ولبينا النداء للإستعداد وتقديم المساعدة من إخلاء وفتح مسارات في الطرقات وتصريف المياه والتأهب لأي طارئ يمكن يحدث ولكن ما حدث كان أكبر من توقعاتنا وأيضاً قدراتنا ! 

صباح الأحد 10 / سبتمبر  

كانت الأوضاع صباح ليلة الكارثة عادية، غيوم في السماء، أمطار غزيرة مستمرة لم تتوقف، حالة برد وخوف، كانت الأماني أن يمرّ هذا اليوم بسلام، كنا نطمئن بعضنا بأن الأمر العادي سيكون كسابقها فنحن كمتطوعين قد أعتدنا هذا العمل كل شتاء أو في حالة الأمطار الغزيرة . 

مرّ ذاك اليوم حتى غروب الشمس وبالتحديد بعد صلاة المغرب، بدأت تشتد الأمطار بطريقة غير مسبوقة ولساعات طويلة وبشكل مؤذي، كانت الأمطار تتساقط بقوة وبشكل أفقي وليس عمودي خاصة مع سرعة الرياح، انقطع التيار الكهربائي على عدة أماكن في المدينة وخيّم الظلام، كنت حينها في مقر مفوضية درنة للكشافة والمرشدات رفقة الأصدقاء متأهبين ونخلّي مع بعضنا العائلات في الأماكن الخطرة والذي بدأ مياه الأمطار الدخول لمنازلهم نظراً لأن منازلهم على مستوى منخفض من الأرض وإلى هنا كان الأمر نوعاً ما مقدور عليه رغم صعوبته وبدأ بالازدياد وبدأت مياه الأمطار تغلق شوارع المدينة، حينها وصلنا أن ( شارع البحر قد فاضت فيه المياه ) وأن المياه تجري بسرعة قوية داخل ( ذيل الوادي – المنطقة المنكوبة وسط البلاد ) وفعلياً بدأت حالة التوتر وكان كل الأمر لدينا أن مياه الأمطار هي المشكلة فقط، لم يخطر ببالنا ما يحدث هناك في بوابة الكارثة التي كانت تتجهز للمدينة، وادي درنة ! وسد درنة الذي كان يغلي بالمياه ويمتلىء ويستعد للدخول على المدينة لتبدأ مأساة وكارثة لم توصف .  

ساعات قبل الكارثة  

الأثنين 12 صباحاً : 11 / سبتمبر 

عند الساعة 12 مساءً تلقيت اتصال هاتفي من والدي يخبرني أني لو استطيع القدوم للمنزل لأنهم بحاجتي فمياه الأمطار بدأت تدخل من نوافذ شقتنا القاطنة في ذيل الوادي المكان الذي دُمّر لاحقاً، كنت بين نارين، بين واجبي الإنساني والتطوعي في مساعدة المدينة والناس في مثل هذا الوقت رفقة زملائي وأصدقائي من متطوعي الكشافة وبين أهلي وعائلتي، كان الخيار صعب عليّ ولكن قررت بالعودة لمنزلنا لمساعدة أهلي فهم الأولى الآن !  

حينها كان الظلام يخيّم على مقر مفوضية كشاف درنة والأحياء التي بجانبها في مدخل المدينة الغربي، الأمطار غزيرة، الشوارع هادئة وخالية تماماً، لا يوجد إلا حركة بسيطة للسيارات الأمنيّة وسيارات الاسعاف والطوارئ الخاصة بالهلال الأحمر الليبي- فرع درنة، حينها غمرت أنا وأحد الأصدقاء أن يوصلني إلى منزلنا بسيارته فخرجنا مسرعين ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، كانت الشوارع جميعها في حالة غرق فلا تستطيع السيارات العبور، بدأت بالمحاولة والهروب بين الشوارع لإيجاد طريق يوصلني إلى منزلي في ذيل الوادي، لكن دون جدوى، غامرنا ودخلنا إلى أحد الشوارع، مشينا قليلاً حتى وجدنا أنفسنا في وسط بركة من الماء فلم تعد السيارة قادرة على السير، دخلت المياه للسيارة وبدأت بالغوص، نزلنا مسرعين في محاولة من النجاه قبل أن تصل المياه إلى باب السيارة ولم نعد نستطيع حينها فتح الباب وبالتالي سنغرق لا محالة ، خرجنا مسرعين إلى تحت احدى العمارات لنتفادى مياه الأمطار الغزيرة والريح الشديدة، أصبحنا لا ندري ماذا نفعل ولا أحد هناك للمساعدة وبدأت الاتصالات تذبذب وتنقطع، قررنا أن ندخل المياه ونحاول بتحريك السيارة انا وصديقي لإنقاذها إلى بر أمان، وفعلنا ذلك بالفعل، كان منسوب المياه يصل إلى نصف أجسادنا وبدأت بدف وتحريك السيارة حتى أوصلناه إلى جزء من الشارع كان منسوب المياه فيه قليل، بدأت المياه تخرج من السيارة، حاولنا تشغيلها ولحسن حظنا عملت معنا السيارة، طلب من صديقي العودة لمقر  المفوضية فهو المكان الآمن الآن ! وبالفعل عدنا ولكن كنت منشغلاً جداً على أهلي وكنت مصراً على العودة، حينها قررت الذهاب للمنزل سيراً على الأقدام، منزلنا الذي يبعد حاولي 5 كيلو متر كانت الطريق صعبة للوصول وسط الرياح القوية والأمطار الغزيرة والأمطار ولكن عزمت على ذلك متوكلاً على الله حتى وصلت إلى المنزل بعد جهد جهيد، كان وضع منطقة ذيل الوادي حينها مقلق إذ كانت المياه تغمر مجرى الوادي هناك وتتدفق بسرعة عالية وكأن وراءها محركات ضخ، كان الأمر غريب بالنسبة لنا ولأول مرة نرى الوادي قد امتلأ بالماء بشكل كامل ولم يبقى إلا قليلاً ليصبح الماء على مستوى الشارع الرئيسي، وصلت لمنزلنا الذي كان شقة في الدور الثالث من عمارة مكونّة من 4 طوابق، وجدت أهلي بسلام الحمد لله، كان السيل لم يبدأ بعد حينها، الأمور مقلقة ولكن مستتبة إلى حدٍ ما، مياه الأمطار كانت تتجمع وتدخل بشكل بطئ من النوافذ وكنا نحاول بالتنظيف ومسح المياه وايقافها وذلك حتى الساعة 2 ليلاً من تلك الليلة لتبدأ الكارثة التي لم نتوقع وتبدأ قيامة درنة . 

فيديو المرفقات من تصويري وأنا في طريق عودتي للمنزل على الأقدام ولأول مرة أشاهد الوادي ممتلئ بالماء والذي نسكن نحن على ضفافه  

نكمل في الجزء الثاني من المقال .