عن جدوى الكلوبهاوس الليبي

كان هذا عنوان لأحد الغُرف التي شاركتُ بإدارتها مؤخراً على تطبيق كلوبهاوس، والتي ناقشنا خلالها طريقة تعاطينا نحن الليبيين مع هذا التطبيق الجديد، الذي أصبح مؤخراً يكتسب عددًا متزايداً من الناشطين، بحيث بات من المهم طرح سؤال الجدوى، وإبداء ما يُشبه الملاحظات على أجواء "التواصل" داخل أحدث ضيف ينضم لعائلة "السوشال ميديا".

ولعل الشهرة الواسعة التي اكتسبها التطبيق، ترجع في بداية الأمر إلى مشاركة شخصيات مشهورة ومتنفّذة عالميًا في استخدامه والترويج له، أمثال إيلون ماسك، الذي دعا إلى استخدام كلوبهاوس عقب مشاركته من خلاله في حديث مع الرئيس التنفيذي لتطبيق "روبن هود" فلاد تينيف، قبل أن يقوم بدعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإجراء حديث مماثل.

وقد مرّ كلوبهاوس بمراحل مختلفة قبل أن يصل إلى ما هو عليه اليوم. فقد دُشّن التطبيق بدايةً في مارس 2020، وكان "نخبويًا" يقتصر على عدد ضيّق من المستخدمين، ثم أُتيح لمستخدمي IOS في يناير 2021، قبل أن يتواجد على Android بعد بضعة أشهر، ليمر خلال هذه الفترات بتغييرات تتعلق بالخصائص والميزات المتاحة للمستخدمين، كالرسائل وتسجيل الجلسات ونشر روابط الكتب؛ وقبل ذلك إمكانية التسجيل المباشر، دون الحاجة لدعوة صديق، كما كان يحدث في البداية.

ولعل كلمة "التواصل" التي توصف بها مختلف التطبيقات المختلفة؛ لا تنطبق على أي منصة، قدر انطباقها على الكلوبهاوس. ذلك أن حميمية الحديث والحوار المباشر، دون وساطة الكلمات المكتوبة أو تعابير "الإيموجي"، جعل هذا التواصل "صادقًا" دون تكلّف أو "تزييف". 

هذه الحميمية في معرفة الأشخاص، الذين يشاركون أفكارهم "ارتجالًا" دون تحضير مُسبَق كما في منشورات فيسبوك أو تغريدات تويتر أو دردشات ماسنجر؛ هو ما دفع لتأسيس أندية وتجمعات، تضم أفرادا يحملون اهتمامات مشتركة، بغض النظر عن اتفاقهم واختلافهم في النظرة إلى الأمور.

لكن هذا التفاعل الحميم، الذي قلنا إنه أحد أسباب شهرة التطبيق، وميل الناس المتزايد لاستخدامه، هو نفسه أبرز ما يؤخذ على كلوبهاوس من مآخذ. فمن المعلوم أن التعبير بالكتابة، يستلزم وقتا لاختمار الأفكار، وترتيبها منطقيًا، ثم التعبير عنها بأسلوب واضح وسلس. بالطبع، لا يملك الجميع هذه المهارات، لكنّ طبيعة التواصل الكتابي، يفرض على المستخدم حدّاً أدنى من الجهد الذهني، سواء أكانت المادة المُقدَّمة جديّة أم هزلية، مكتوبة بالفصحى أم العامية. وسواء أكان هذا في المنشورات، أم عند كتابة التعليقات والردود.

في المقابل، فإنّ الحديث الكلوبهاوسي، غالبًا ما ينحو في الغرف الليبية باتجاه الهدرزة. ولا يُقصد هنا تلك الغرف التي تأسست أصلًا لغرض الدردشة الودية الخفيفة. بل إن "الهدرزة" قد طالت حتى تلك الأندية أو التجمعات، التي تناقش مواضيع علمية أو ثقافية رصينة، تفرض على المشارك بها -فضلاً عمن يُديرها- التزامًا بمعايير محددة من المعرفة والدراية، تُضفي على مداخلاته قيمة ومصداقية. فإذا بها تُصبح مَشاعًا لأي "عابر سبيل" يراها، ويرى في نفسه القدرة على الخوض فيها. وهذه السهولة في المشاركة، والـ"هدرزة" لأي شخص يمتلك مهارات الحديث، دون أن يمتلك المعرفة الوافية عما يخوض فيه؛ هي مأخذ آخر يُحسب على التطبيق.

لكنّ الكلوبهاوس إذ يكون مثارًا للوسْم بـ"الشعبوية"؛ فإنه يُحمَّل فوق طاقته بأكثر مما يستحق. وهذا يصدُق على ما سبقه من تطبيقات ومنصات. ذلك أن الطفرات التكنولوجية الثورية، تقف ورائها فلسفة تنتج الأفكار قبل إنتاجها للأدوات. وبما أننا في مجتمعاتنا محض مستهلكين أو مُتلقين لهذه الأفكار في شكلها الأداتي المُنجَز = التطبيقات، فإنه من الطبيعي أن يُتعامل معها باعتبارها "أحبال غسيل" نضع عليها ما يثير اهتمامنا من أفكار وقضايا وإشكالات. وكما أن حبل الغسيل غير مسؤول عما يُنشر فوقه من أشكال الملابس وأحجامها وألوانها ومستوى نظافتها، كذلك فإن أي تطبيق، هو غير مسؤول عن نوعية وطريقة ما يُثار فيه من جدل أو اهتمام. وهنا لا بد من التشديد على أثر العولمة والسيولة الثقافية التي اجتاحت العالم في السنوات القليلة الماضية، بحيث أصبح تَشارُك الاهتمامات والتفاعل المتزامن على قضايا الساعة، موحِّدًا لمليارات البشر من مستخدمي الإنترنت، بشكل لم يحدث قبلًا في التاريخ الإنساني.

لكن هذا كله لا ينفي نوعًا من "خصوصية" المجتمعات، التي ترجع -كما قلنا- إلى التباينات الفكرية والثقافية بين المجتمعات المنتجة للأفكار والتقنية، وبين المستهلكة لها، واختلاف تجاربها التاريخية والحقوقية.

فعلى سبيل المثال، فإن انسداد المناخ السياسي في كثير من مجتمعاتنا، وضيق المجال الاجتماعي في مناقشة أفكار قد تبدو "محظورة" أو غير مسموح الخوض فيها، جعل تطبيقات التواصل الاجتماعي -وكلوبهاوس آخرها- منبرًا مهما لإثارة هذه القضايا، وإخراجها إلى حيّز الوجود بعد أن كان "مسكوتًا عنها"، بغض النظر عن شكل العرض وطريقة التناول. وبرغم أن هناك كثيرًا مما يُعتبر غريبًا وغير مقبول في مجتمعاتٍ مأزومة تُفضّل أن تُنعت بـ"المحافِظة"؛ فإنّ إثارة النقاش، وجمع مختلف الآراء في فضاء واحد، يستمع فيه الجميع لبعضهم، هو من أبرز منجزات الثورة الرقمية الحديثة، التي يُمثلها الكلوبهاوس بأوضح ما يكون. وإذا ما تعذّر هذا الاجتماع بين المختلفين، فإن التطبيق يتيح إمكانية عقد غرف خاصة، يكون المتحدثون فيها يعرفون بعضهم جيّدًا، وبذلك يأمنون خطر غير المرغوب فيهم من "المتطفلين". وإذا كانت هذه الخاصية تقدّم نوعًا من "المساحة الآمنة"؛ فإنها في المقابل تقلّص من حجم المشاركة في النقاش العام، وهو الغرض الرئيس من إنشاء منصات التواصل الاجتماعي.

ولا تقتصر الاستفادة من فرص اللقاء والحوار في المواضيع الجدلية فقط، وإنما كذلك في مواضيع "عملية" إن صح التعبير، كنقاش المواضيع التي تُعنى بالهمّ اليومي والمعيشي، إلى توثيق المنتج الفكري المحليّ ومناقشته، وتبادل الخبرات والآراء بين الأشخاص ذوي العلاقة، إلى إقامة الملتقيات التي تقوم بـ"تشبيك" الأشخاص المهتمين، أو المحتاجين إلى المساعدة، سواء في المجال الفكري أو المهني أو التعليمي أو حتى الصحي.

 

وإزاء هذا الطيف الواسع والمتشابك من الفضاءات التي يُتيحها التطبيق -مثل غيره من منصات التواصل الاجتماعي- نرانا مضطرين إلى الإجابة بتلك الحيادية الشهيرة: له ما له، وعليه ما عليه، إذا ما تمّ سؤالنا "عن جدوى الكلوبهاوس الليبي"!

مقالات ذات صلة