ثقافة
05.07.21

النيهوم والجمود الثقافي

كان الصادق النيهوم ظاهرة ثقافية وظل كذلك، وكانت الأقلام التي تلت قلمه من جيل الشباب (خصوصا الجيل الحالي) تمتاز برونقه ويغلب عليها طابعه الأدبي، خصوصاً في مجالات المقال والنقد الإجتماعي، حتى أنني أسميها مجازاً بالأقلام النيهومية.

وعلى عكس بلدان أخرى تتشارك معنا النطاق الإقليمي والفكر الديني نفسه كمصر مثلاً، لم يكن لليبيا نصيب وافر من المفكرين الذين يخاطبون الشارع بجرأة كما فعل سيد قمني مثلاً أو فرج فودة وغيرهم الكثير، حتى أن النيهوم يصير هو نفسه ظاهرة هزيلة إذا ما قورن بهؤلاء أو وضع في مواجهتهم، ما يجعلنا نتساءل بشكل شبه دائم إن كانت الظاهرة الثقافية الليبية تستحق الإهتمام أصلاً أم تستحق أن يتم ضربها عرض الحائط؟ هل الظاهرة الثقافية في بلدنا بطيئة النمو؟ وإن كانت كذلك فما سبب بطئها؟

إن أسئلة مثل هذه لا تتم الإجابة عنها بمقال قصير لا يتجاور الخمسمائة كلمة، بل هي أسئلة يتم كتابتها وتحليلها والإجابة عنها في بحوث طويلة تتناول الجوانب الإجتماعية والسياسية وحتى الإقتصادية والديمغرافية لبلاد قال عنها عبد الله القويري أنها مجرد مجموعة من الجزر المتباعدة التي لا يربط بينها أي رابط. وأستذكر هنا حديثي مع صديق قديم أخبرني ببساطة أن مد سكة حديد تصل مدينة بأخرى يكفي لإحداث تغييرات كبيرة في بلد بطيء يسير دائما كحلزون بائس، وهي فكرة عبر عنها محمد المفتي في كتابه "توطين العلم أولاً" الذي شرح فيه بشكل مبسط أن الأمر لا يحتاج إلى فكر تنويري مثلاً، بل يحتاج إلى عقول عملية وتغيرات على الأرض لا تغيرات في طريقتنا في التفكير، وبمعنى آخر يمكننا القول أن التطور والمضي قدماً لا يحدث نتيجة لتغيراتنا الفكرية الداخلية، بل يحدث نتيجة التغيرات العملية الخارجية.

ولا يجب علينا بحال من الأحوال أن نغفل الإسهام الثقافي الذي قدمه النيهوم لثقافتنا النامية إن صح التعبير، فالنيهوم رغم كونه شخصية جدلية كلامية إلا أنه ساهم في توسيع نطاق تفكيرنا -كشباب- في تلك الأشياء التي لم نفكر بها قبلاً، حيث تمتاز كتبه بالجدل الذي يحفز العقول على التساؤل والبحث عن إجابات ممكنة هنا وهناك، بالإضافة إلى أنه ترك لنا موسوعتين (تاريخنا وبهجة المعرفة) هما من أكثر الموسوعات غنى في المكتبة الليبية، ورغم أن هاتين الموسوعتين لم تعودا تطبعان منذ أن تم إغلاق دار التراث التي أنشأها النيهوم مع ثلة من المثقفين في سويسرا إلا أن ما بقى من النسخ لازال يجوب المكتبات بصورة دورية حيث يتم إعادة تدوير هذه النسخ من قارئ لآخر.

أرشيف وتاريخ في حوار يتناول حياة وأعمال الكاتب الليبي الصادق النيهوم

ورغم بطء التحول الثقافي الذي تشهده البلاد إلا اننا نجد أن قفزة التغيير الأولى لم تتم بفضل النيهوم وأفكاره ولا نتيجة لإرادة سياسية أو اقتصادية بل الأمر يرجع أساساً إلى غزو التكنولوجيا إن صح التعبير، هذا الغزو الذي ساهم في انفتاح ليبيا على بلدان الجوار وعلى العالم، فحتى وقت قريب كانت التكنولوجيا الرقمية من نصيب فئات وطبقات معينة أما اليوم فالإنترنت في كل بيت (حتى تلك البيوت الأشد فقراً والأشد تطرفاً) وساهمت هذه التكنولوجيا في إلقاء الضوء على النيهوم وبعثه مجدداً وشيوع أفكاره أيضاً بمعنى أن التغيرات العملية التي تحدث عنها محمد المفتي يمكن تلخيصها في جهاز انترنت وهاتف محمول!

ولكن النيهوم، وبالمناسبة، وكما يعرف الجميع، لم يكن صاحب منهجية نقدية واضحة في المجال الديني وهو ما يتضح جلياً لقارئء اليوم، بل كان النيهوم يتخبط في نقده، حتى أن كتابه الذي أسماه الرمز في القرآن كان يبدو لا منطقياً ولا يخضع لمقومات النقد الديني الحديثة. وقد جعلته كتاباته هذه يظهر اليوم كمفكر إسلامي وأقرب إلى الداعية منه إلى الناقد، ولا نريد هنا أن نحاكم فكراً في زمن معين بأفكار أخرى من زمن مختلف، ولكن الأمر وما فيه أن النيهوم ساهم في تشكيل ثقافتنا باعتباره أقرب إلى الأيقونة الجامدة منه إلى الفكر النسقي المتجدد، بمعنى أن النيهوم أيضاً كان سجينا لفكر معين ومشروع معين، وأنه كان مجرد منظر ينظر في اتجاه أحادي لصالح فكرة أحادية ولم يكن يوما باحثاً إلا أن الطبقات المثقفة ظلت تنظر لشخصيته، وحتى هذه الأيام، بإعتبارها أيقونية لا يتم النظر فيها إلا بوصفها لبنة الثورة الأولى وشخصية مقدسة لا يجب نقدها أو تجريمها بل يجب رفعها لأعلى وتقديسها، لهذا يتمثل الإشكال في نظري في مسألة جمود الظاهرة الثقافية وتمثلها فقط في شخص النيهوم فالنيهوم بالنسبة للمثقف الليبي اليوم هو اللات وعُزّى وهُبل!

مقالات ذات صلة