ثقافة
04.09.21

الاختفاء القسري في ليبيا: المعاناة المستمرة

كان اسمها "موبيرا"، وكانت من الجالية الأجنبية، كانت ممرضة ومتزوجة من رجل ليبي الجنسية، تعمل في مصحة صغيرة في المنطقة التي أسكن فيها، وكنت أراها أحياناً وأسمع عنها في أحايين أخرى.

أذكر تلك المرأة جيداً، التقيتها منذ أعوام عدة، كانت تقف في المستشفى وتخبرني عن ابنها المفقود منذ عام 2011، وكانت قد أخبرتني ذات مرة بوجود مقبرة جماعية قد اكتشفت حديثاً في مكان قريب من سكن ابنها وأنها تتمنى أن يوجد فيها لتكف كلياً عن البحث والأمل، كانت تبحث عن نهايةٍ لهذه المعاناة ولم يعد يهمها إن كانت هذه النهاية جيدة أم سيئة، إن هذا هو ما يخلفه الإختفاء القسري، حالة من اليأس والقلق والانهزام.

الاختفاء القسري والاتفاقيات الدولية

تُعرف الاتفاقية الدولية لحماية الأفراد من الاختفاء القسري التي تم اعتمادها والعمل بها دولياً عام 2010 الاختفاء القسري بأنه:
"الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتمّ على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرّفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون."

وحسب التقارير الدولية للصليب الأحمر فإن ليبيا عام 2020 قد تصدرت القائمة من حيث أكثر الدول الإفريقية قي عدد المختفين قسريا بواقع 1600 شخص، ويمكن ملاحظة أن هؤلاء الأشخاص المختطفين قسرا هم من خلفيات مختلفة، فمنهم الصحفيون ومنهم المحامون والساسة ومدراء الشركات وحتى المتطوعون في النشاط المدني والمواطنون العاديون الذين لا تربطهم بالسلطات أو بالقوى المعارضة أي رابط، ومن هذه الإختفاءات ما يصل صداه إلى الإعلام والسوشال ميديا ومنها ما يضل مسكوتا عنه ولا يأخذ الحيز الكامل من الإهتمام لأسباب متعددة، فالإعلام في ليبيا موجه وضعيف ويغلب عليه طابع الإستبدادية السياسية في مجمله.

ولكن في المقابل توجد قصص أخرى يتم الإهتمام بها ويصل فيها الأمر إلى إعلانات تضامن مباشرة كحالة اختفاء مدير مكتب الهلال الأحمر بمدينة اجدابيا منصور عاطي وأيضاً اختفاء عضوة البرلمان سهام سيرقيوة منذ عامين التي لم يُعرف مصيرها إلى اليوم. فهذه القصص كان لها صدى كبير في السوشال ميديا لم يوجد لغيرها من القصص من أمثال قصص المختفين قسرياً من المدنيين الذين لا يمتلكون أي صفة رسمية في مدينة ترهونة، حيث تم الكشف عن مصير جزء منهم بعد انتهاء حرب 2019 وكانت أجسادهم كما هو متوقع مغطاة بالتراب ترقُدُ بجانب بعضها البعض في مقابر جماعية.

الاختفاء القسري كأداة للإرهاب

حين تتكلم في الدول القمعية والشمولية أو تنتقد بشكل صريح فإن الدولة ستقوم بإسكاتك عن طريق احتجازك تعسفياً أو إخفائك قسرياً أو ربما اغتيالك، وكان هذا هو الحال في ليبيا منذ عهد النظام السابق. ولكن المختلف الآن هو ازدياد حالات الإختفاء القسري مع ازدياد الفوضى الأمنية وانتشار المليشيا في ربوع البلاد، تلك المليشيا التي تعمل في غالب الأمر تحت لواء الدولة وبأوراق وأرقام عسكرية تارة، وبتمثيلها لأجهزة أمنية تارة أخرى.

ويتبع دائماً أمر الاختفاء القسري أمراً آخر مشابهاً هو "الاحتجاز القسري" الذي يجعل من الشخص مسجوناً في مكان معلوم من جهات معلومة ولكن دون وجود أي نية بالمحاكمة ودون توجيه تهم أصلاً، حيث يُحرم الفرد من حقه في مرافعة وحماية قانونية، وقد تكلمت "بينسودا" المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية مطلع العام الجاري عن انتهاكات تطال الكثير من الأفراد في سجني الكويفية وسجن الردع التي طالت حتى أشخاصاً تحت السن القانونية دون توجيه أي تُهمٍ في حقهم.

وما يزيد الأمر سوءاً هو وجود هذه الكيانات التي تمتهن الإخفاء القسري كأسلوب للترهيب ضمن حدود الدولة رغم أن الدولة لا تستطيع بأي حال السيطرة عليهم، فقد تم في فترات ما بين 2011 وما بعدها احتجاز واخفاء الكثيرين بشكل غير واضح ووُجد أيضاً الناجون الذين تكلموا عن فظاعات لحقت بهم تصل أحياناً إلى حدود العنف الجنسي.

وليست ليبيا هي الوحيدة في هذا المضمار فالدول العربية بشكل عام والدول التي تمر بحروب ونزاعات مسلحة بشكل خاص كلبنان وسوريا مثلاً تعاني من حالات مشابه، فقد بلغ عدد اللبنانيين المختفين قسراً منذ الحرب اللبنانية ما يقارب 17 ألف لبناني، فيما بقى في سوريا ما يقارب 100 ألف شخصاً مُغيبين كلياً ولا يعرف أحد إلى أين انتهى مصيرهم منذ عام 2011 إلى اليوم، فمتى ستنتهي مأساة الاختفاء القسري؟ وإلى أي مدى ستمتهن دولنا سياسة الترهيب في حق مواطنيها مهما كانت أفكارهم وانتماءاتهم؟ إن المتابع لأحوالنا يرى أن الأمر لا ينتهي ولا يتضاءل بل الأمر يتفاقم ويزداد سوءً يوما بعد يوم خصوصاً في البلدان التي تشبهنا، تلك البلدان لا تملك آلة إعلامية حرة تنقل الوقائع بغض النظر عن الانتماءات السياسية والحزبية.

مقالات ذات صلة