ثورة فبراير وتداعياتها: هل نحن نحتفل بها حقاً؟

كنت في عمر الرابعة عشر حين قامت الثورة، شاهدت التلفاز كثيرا حتى بدا الأمر بالنسبة لوالدي مجرد هوس وجنون، انتظرت بفارغ الصبر تلك البلاد التي وعدنا الإعلام بها، متناسية حقيقة الأشياء الموجودة والماثلة أمام عينيّ، وتفاقم الأمر غداة مقتل القذافي حيث كنت أنتظر بفرح مصيراً متخيلاً تم الترويج له بواسطة شبكات الإعلام العربية، مصير ظننت فيه، كما ظن كل الليبيين، أن إزاحة القذافي ستكون الحدث الذي سيقلب كل شيء، وهو ما حدث على أي حال، ولكن بطريقة لم نتخيلها.

عمّت الفوضى أرجاء البلاد، بدأ ذلك بعد أشهر قليلة من موت القذافي، بدأ جنوباً ثم تمدد عبر سنوات ليشمل كل مدينة وليدخل إلى ذهن الليبيين عبر الشاشات المركونة داخل كل بيت. غزت المجموعات المسلحة أرجاء البلاد، وطفت على السطح تلك المجموعات المتشددة التي حذر العقيد القذافي من وجودها في صفوف المعارضة التي ضمّت مجموعات مختلفة فيما بينها تكاد لا تتفق على شيء سوى إزاحة القذافي بأي وسيلة، هنا بالضبط بعد سنوات من التيه بدأت الأسئلة والمراجعات تتوالى: هل هذا ما أراده الليبيون حقاً؟ هل هذه الثورة هي نتاج شعبي أم أنها مؤامرة خارجية؟ وهل المجموعات المتشددة هي صاحبة السبق في هذه المعمعة؟ وأخيراً: هل من حقنا أن نحتفل بهذه الثورة التي نتج عنها كل هذا الخراب؟

 

حنين إلى الطاغية

في الحقيقة تبدو حالة الحنين إلى الطاغية حالة عامة ولا تتميز بها فئة في مقابل فئة، لأن النزاع المسلح على السلطة والثروة جعل الجميع يقرُّ مُكرهاً أن حالة الاستقرار الأمني الناتجة عن استقرار السلطة الحاكمة هي حالة في غاية الأهمية، حيث يبدو النموذج الخليجي ماثلاً أمامنا اليوم ليخبرنا أن الإصلاح السياسي بدون ثورات عنيفة تمتاز بطبيعتها التدميرية هو أمر ممكن، خصوصاً عند الانتباه إلى حقيقة مفادها أن حالة الفوضى التي اجتاحت بلدان الربيع العربي مهّدت الطريق للجماعات الإرهابية من أمثال داعش وأنصار الشريعة وتنظيم القاعدة كي يتخذوا هذه البلدان أرضاً ووسيلة لممارسة نشاطاتهم.

وهو أمر جعل كل الأحداث التي تلي هذا الحدث مرتبطة به بشكل كامل، فانتشار السلاح في أرجاء البلاد (الذي ساهم غرور القذافي بانطلاق شرارته) جعل البلاد تدخل رسمياً إلى النفق العراقي، فالسلطة في العراق تم إزاحتها بواسطة الدول الغربية بمباركة الأمم المتحدة وهو ما حدث في الحالة الليبية بشكل شبه كامل، متمثلاً في تدخل حلف الناتو، ووضع البلاد تحت البند السابع بعد ذلك، وهو ما يرجعنا إلى احتمالات أخرى كان يمكن للمعارضة وللقذافي أن يطرحوها في سبيل الحفاظ على البلاد من هذا التشظي، فتحوّلت الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة بشكل سريع ساهم في وأد كل احتمال للمسارات الإصلاحية، وهو أمر قد حدث أساساً بسبب غرور القذافي وغرور قوى المعارضة على حد سواء.

البكاء على اللبن المسكوب

يبدو تخيل الأشياء بأكثر من سيناريو وبأكثر من احتمال شيئاً مجنوناً، ولاداعي له في الوقت الراهن، غير أنه يرشدنا إلى تلك المسارات التي أهملناها بسبب حالة الحماس الجماعية التي سيطرت علينا، خصوصاً مع اندماجها بتلك النكتة السمجة التي تناقلها الليبيون والتي تروي في طياتها إحساسهم العميق بضرورة فعل شيء، تلك النكتة التي تصوّر مواطنان من دولتي مصر وتونس يخبران مواطني ليبيا أن يضعوا رأسهم بالأسفل لأن الثورة تحتاج شجاعة وهم لا يملكونها.

نكتة أو رواية مثل هذه تبدو اليوم في الظاهر لا داعي لها ولا تقدم شيئاً ولا تؤخر، غير أنها بالنسبة إلى شخص يهتم بالتاريخ الشفهي تحمل مضامين كبيرة، من بينها حالة الانتقام للكبرياء المجروحة، وإنني اليوم حين أفكر فيها أكاد أجزم أنها جاءت أثناء زخم الثورة وليس قبلها، وأنها لا تملك من الحقيقة الشيء الكثير باستثناء رمزيتها النفسية، فالثائر ابن الثورة الذي حمل السلاح لم يكن في الظاهر مخيراً بين حمل السلاح من عدمه، بل كان مكرهاً تحت ضغوطات نفسية أن يثبت وجوده داخل هذا الربيع العربي، وألا يكون مستثنى من التاريخ، وألاّ يُشكّل هامشاً، كأن يكون مجرد رجل كرسيّ لا داعي لها.

احتفالات بالثورة أو احتفالات لأجل لا شيء  

يتجلى التعويض النفسي بشكل شبه كامل في حالة الاحتفال الهستيرية متمثلةً في كل تلك الجماهير التي تملأ الساحات الرئيسية في ذكرى الثورة، هذا الاحتفال الذي لا يمثل من وجهة نظري الإيمان بالثورة وبأهدافها، أو التأكيد على مصداقيتها ومشروعيتها، بقدر ما يمثل تعويضاً نفسياً لبلاد تُمنع فيها إقامة الحفلات المختلطة. بلاد لا وجود فيها للفن ولا للموسيقى ولا للتجمهر، إلا من خلال هذا اليوم الذي تباركه السلطة والمليشيا على حدٍ سواء، ولا يستطيع شيخ الجامع أيضاً أن يتخذ إجراءً في حق هذا الاحتفال يقتضي بمنعه، لهذا يكون هذا الاحتفال هو الحدث المنشود الذي يخرج فيه الشعب على شكل جماعات كبيرة ليُعبّر عن امتلاكه للمكان وليثبت سلطته عليه. ولهذا بالذات يبدو لي هذا اليوم دائماً بمثابة يوم للاحتفال فقط دون وجود لمناسبة فعلية، فالسابع عشر من فبراير هنا يومٌ تبدو له هيئة الحجاب الذي يتستّر المحتفلون خلفه.

مقالات ذات صلة