مـن أوراق فبرايـر: إعـادة اكتشـاف لـيبيـا

إذا مرّ عقد على "الربيع العربي". ولكل الحق في أن يسمي أحداثه بما يشاء ووفق ما يراه: ثورات/ انتفاضات/ حراكات/ أو اضطرابات. أو وفق الرؤيا الأكثر تشاؤما، هي مؤامرات أفضت إلى انحلال مجتمعات، وإحداث حروب أهلية مدمرة، أتت على المقومات الرئيسة لبنية الدولة والمجتمع في المنطقة العربية.


في الواقع، لا يبدو في هذه التسميات، أي معنى "رومانسي"، بما فيها التسمية الحماسية لهذه الأحداث: "الثورة". فوفقا لـ لسان العرب، فإن جذر الكلمة ث – و – ر، لا يدور إلا على معاني الاضطراب والانقلاب والقلاقل: ثار الشيء ثـوْرا وثورانا: هاج. والثائر: الغضبان.

وعلى اختلاف هذه التسميات، والتقييمات، وزوايا الرؤية، مما حصل ويحصل إلى وقت كتابة هذه الكلمات؛ إلا أن هناك اتفاقا عاما على ضخامة الآثار التي خلفها "الربيع العربي" الذي شمل معظم الدول العربية، في موجته الكبرى سنة 2011، وموجته الأصغر سنة 2019. زلزال سياسي واجتماعي وثقافي، ما تزال ارتداداته قائمة، تتوالى حتى اللحظة، برغم كل ما يقال من دعاوى حول انتصار "الثورات المضادة". فيما تذهب بعض التقييمات إلى أنه برغم كل ما حدث من أهوال في هذا العقد، فإنه لا يعدو كونه مجرد بداية لها ما بعدها، وأنه لا عودة لما قبل 2011، سواء في أنماط الحكم أو المعارضة، أو العمل المدني والحقوقي، أو العلاقات الدولية، في عالم أضحى تأثره شديداً بين أطرافه، وأخذ يتقلّص يوما عن آخر.

وقد دُبّجت الكثير من المقالات والدراسات، وكُتبت عديد الأطروحات والكتب، في تحليل أسباب ومآلات هذه الانتفاضات، ومقارنتها لأحداث مشابهة سبق وقوعها في مناطق أخرى من العالم، مثل دول شرق أوروبا، أو أمريكا اللاتينية. بل سبق اندلاع "الربيع العربي"، كتابات كانت قد استشرفت وقوعه، وحذرت من انفجار الأوضاع بأشكال مأساوية مرعبة، بناء على ما كانت تُدار به هذه المجتمعات من أنماط سلطوية، أفرغت المجال العام من أي حياة سياسية أو نهضة تنموية، مفضّلة ديمومة الحكم كغاية وحيدة تضمن بقائها. وفي سبيل هذه الغاية، طغى "الأمني" على السياسي والتنموي والثقافي .

وليبيا كانت لها نصيبها من "الربيع" وقد بدا ربيعها مفاجئا وواعدا، في الآن نفسه، نظرا لما عُرفت به البلد من غموض وغرائبية، بسبب طبيعة سلطتها الحاكمة، التي لم يوجد لها مثيل على امتداد الكوكب. وبرغم ما كان يؤخذ على سلوكيات حاكمها السياسية والشخصية من طرائف؛ إلا أن بقاء هذه السلطة لقرابة أربعة عقود، وبما عُرف عنها من قسوة في القمع، وتنكيل شديد بالمعارضين، جعل من فرضية اندلاع ثورة في ليبيا، حدثا مستبعدا، رغم توافر كل الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تدعو للثورة.. أو في حد أدنى الانتفاض والاحتجاج.

ولكنّ الثورة اندلعت، وأزيل النظام، وبدا أن ليبيا تولد من جديد، بحيوية دافقة، وتطلّع حماسي إلى عودة الانخراط في العالم. الذي لطالما كانت معزولة عنه بشكل أو بآخر.
وإلى جانب هذا الانفجار الواعد في الآمال، كان لربيع ليبيا جانبه القاسي: اضطراب سياسي وأمني، حروب متكررة، تطرف ديني، ارتفاع تكاليف المعيشة مع نقص حاد في السيولة النقدية والقدرة الشرائية، فساد مهول، جعل البلاد في كل تقييم دولي، في مقدمة البلدان الأكثر فساداً.

وهكذا تجاورت الصورتان المتناقضتان لليبيا في عملة واحدة. ولم يفعل هذا التناقض سوى أن فتح الباب لكثير من النقاشات والمداولات عن طبيعة ومآلات التغيير السياسي والثقافي والاقتصادي المنشود. وهي نقاشات بدأت فور اندلاع الثورة على النظام، ولا يبدو أنها ستنتهي قريبا.
ولأن الإحاطة بكل تبعات هذا التغيير، مهمة شاقة، يُحتاج لإفرادها ملفات خاصة، قد لا يكون بمقدور شخص واحد الاضطلاع بها، فستكتفي هذه المقالة، بتناول جانب واحد لليبيا بعد فبراير، وهو مفهوم "الهـويـة" الذي تنوعت تعريفاته وطرق التعبير عنه واختلفت وسائل الاحتفاء به، والمحافظة عليه.
الهويـة الليبيـة:
بتعريف عام، تُعتبر الهوية أشبه بـ "بطاقة تعريف"، سواء للفرد أو الجماعة. وتتعدد أبعادها بين الثقافي والفكري والرياضي والموقع الجغرافي والإرث التاريخي وغيرها. وبهذا المعنى تُعد الهوية عنصراً مرُكبًا من عدة تنويعات، تختلف بحسب الفرد، أو طبيعة الجماعة: سياسية/ عرقية/ دينية/ فنية ..الخ. تعطي الفرد أو الجماعة عنوان وجودها، وسِمتها التي تميّزها عن غيرها، من المتشابهين معها أو المختلفين على السواء.

شكّل الربيع العربي فرصة لإحياء ليبيا من جديد. ليبيا السياسة، ليبيا الثقافة، ليبيا الفنون، ليبيا التاريخ، ليبيا المستقبل. ليبيا كبلد ومجتمع طبيعي، يمثل جزءا عاديا من العالم، يؤثر فيه ويتفاعل معه. أصبح لهذه البلد صوتها الذي تنطق به، وذاكرتها التي تختزن فيها تجاربها، وتستعيدها فيما تتطلع إليه من آمال وأحلام مستقبلا. صوت حر مندفع، بكل ما تحمله الحرية والاندفاع من اضطراب وجموح. وهو على أي حال، ضريبة عقود طوال من الإلغاء بالقمع والمصادرة الذي مارسته السلطة، عندما تولت الكلام والأفعال، نيابة عن البلد وأهلها، فأعادت كتابة التاريخ، وهندسة الحاضر، وتولّت وحدها بناء أحلام مواطنيها والتكفل بتحقيقها كذلك. فيما كان هؤلاء أشبه بأطفال قُصَّر، ليس عليهم سوى مباركة توجهات السلطة أين ما حطت وكيفما ولّت، دونما اعتبار لرأي مختلف، أو قراءة مغايرة. فقبل أن يتم ابتلاع المجتمع، كان لا بد من جعله "كتلة متماسكة"، ولكي يحدث هذا التماسك، كان لا بد من تسوية التضاريس، وقطع النتوءات، وإزالة أية شوائب تكدّر صفاء المجتمع، وتهدد "وحدته" و"انسجامه".

فعلى طريقة الدراما العربية الكلاسيكية، خرج رأس النظام الليبي في آخر خطاب مطوّل له، ليقول بوضوح أن "العالم لم يكن يعرف ليبيا عندما تُذكر أمامه، فيتساءل: ليبيريا؟ ليبانون؟ إلى أن جاء ]القائد[، فجلب للبلد العزة والكرامة، والشهرة الدولية". هذه العبارة القصيرة، تحمل دلالات معبرة جداً عما حدث في ليبيا-الفاتح.

ولأنه لا بد من سردية ثقافية معينة يبني النظام السلطوي شرعيته من خلالها، ويستغلها كمبرر لوجوده؛ تم البدء بطمس كل ما يتعلق بتاريخ البلد قبل "الفاتح من سبتمبر" باعتباره حقبة مظلمة من الفساد والإقطاع والانبطاح للإمبريالية، مروراً بخطاب زوارة سنة 1973، الذي أُعلنت فيه "الثورة الثقافية"، فتم على إثرها حرق الكتب التي وُصفت بـ"الصفراء"، وتحطيم الآلات الموسيقية التي اعتُبرت "دخيلة" على ثقافة المجتمع. وصولا إلى إعلان "الجماهيرية" واستبدال الدستور بالكتاب الأخضر والوثيقة الخضراء. تم تسمية ذلك بـ"الديمقراطية المباشرة" التي جعلت من الشعب الليبي شعبا مميزا عن غيره من شعوب الأرض، لكونه "يحكم نفسه بنفسه".

ونظرا لأيديولوجيا النظام العقائدية، تمت محاربة أي نشاط فني أو ثقافي لا ينخرط في مهام الدعاية للفاتح من سبتمبر. فتراوح التصنيف بين "الرجعية" و"الغزو الثقافي" و"المؤامرة". فوُأدت جهود المثقفين والفنانين قبل ولادتها. وكانت لهذه السياسات التمييزية، أن ألغت من الوجود إرثا ثقافيا يمتد على مساحة البلاد الشاسعة، ومنعت ظهور مواهب وأفكار، وممارسة حقوق ومطالب، لا تتماشى مع عقيدة النظام كما صاغها في كتبه ووثائقه وخطابات قائده. التاريخ أيضا كان ضحية لهذه العقائدية، فليبيا تقريبا لم يكن لها وجود قبل "الفاتح" إلا بوصفها بلداً كان نهبا للاستعمار وجحافل الغزاة. هنا أيضا ثم تجاهل الحضارات التي أقيمت في أكثر من منطقة في ليبيا، ومع تحول المؤسسات التعليمية لمعاقل دعائية لأيديولوجيا النظام، ورداءة مستواها الأكاديمي، تعاقبت أجيال ليبية عدة في ليبيا-الفاتح، وهي في غُربة عن تاريخها القديم والبعيد، أو الأسوء، لديها معرفة مشوهة عنه، بما نشرته السلطة من سرديات وحكايات، لم تكن تنقصها جيوش المنظّرين والمثقفين، الذين حاولوا بالكلمة والقلم، تغيير ما لم يُستطع تغييره بالسلاح.

استعـادة الهويـة؟
عقب انهيار سلطة القمع، فاضت إلى سطح النقاش عدة مسائل، كانت تدخل ضمن "المسكوت عنه" بل تم اكتشاف إشكاليات وقضايا جديدة، لم يكن يُعرف لها وجود. لكنّ الحرص على استعادة الهوية الليبية، والتعريف بها لدى أبنائها قبل الآخرين، كان هاجسا يسكن قطاعات واسعة من الشعب، سواء من شارك بالثورة قولا وفعلا، أو من اكتفى بالتعاطف معها. وكان هذا الانشغال بقضية هوية البلد وأهلها، ضمن أبرز التغييرات التي أنجزتها الثورة، والتي يمكن ملاحظتها من كم المقالات والندوات والفعاليات والأنشطة الفكرية والفنية، التي جعلت "الهوية" عنوانا رئيسا للنقاش، تختلف فيه رؤى الزوايا والمعالجة.

لكن هل ما يحدث منذ عقد إلى الآن هو "استعادة" فعلا؟ تبدو هذه الكلمة وكأنها مجرد إحياء لشيء أو قيمة كانت منجزة، لم يجر سوى استذكارها من جديد، بينما واقع الأمر، أن ما حدث ويحدث إلى الآن تجاوز حيّز "الاستعادة" إلى "إعادة خلق" الهوية الليبية من جديد، بكل ما تتضمنه من تنويعات وتراكمات، أسهمت في ثراء الثقافة الليبية، وإغنائها. وعملية الخلق هذه، لم تقتصر على مؤرخين أكاديميين أو بُحّاث مختصين فقط، وإنما قاسمهم في هذا عدد كبير من المهتمين الذين دفعهم جهلهم بإرث بلادهم، وفضولهم المعرفي، إلى الانخراط في عملية إعادة الخلق هذه.

فمن تسليط الضوء على أنماط الفن الموسيقي بمختلف مناطق البلاد، إلى التعرّف على ثقافات الإثنيات الليبية المختلفة، بلغاتها وأزيائها وتقاليدها وتاريخها، ومن استنطاق ذاكرة المدن والقرى والشوارع، إلى الوقوف على الشواهد التاريخية من آثار ومبانٍ ووقائع، مرورا بالغوص في التاريخ السحيق لهذه الأرض، وما مر بها من حضارات وأقوام وأطوار مختلفة. ثم التعريف بالأعلام والمشاهير، من القادة والساسة، إلى المثقفين والفنانين، وصولا إلى الشخصيات الشعبية في أحياء المدن ونجوع البوادي، ممن أسهموا في رفد الذاكرة المحلية بطابعها الخاص.

إذن إن كان ثمة استعادة في كل هذا، فهو استعادة "وطن"، كان ملغيا لفترة طويلة. استعادته، وإعادة التعرف عليه، والفخر به، والسعي إلى الارتقاء به، وإضافة صفحات جديدة في سجله، تصل اللاحق بالسابق، وتنشئ لأبنائه جسرا بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وبفضل مناخ الحرية هذا، أمكن للهوية الفردية أيضا أن تبرز باستقلالية ناضجة، وأن يتمكن الأشخاص من تعريف أنفسهم بآرائهم السياسية وأنشطتهم الفنية ومواقفهم الفكرية، وهي مكاشفات لم تكن يُتخيل حدوثها قبل بضع سنين.

مقالات ذات صلة