سوّق لنفسك..كي تنجو

الأشياء الجيدة تتحدث عن نفسها، الكتاب الجيد يتحدث عن نفسه، الفيلم الجيد يتحدث عن نفسه، الأغنية الجيدة تتحدث عن نفسها، الشعر الجيد يتحدث عن نفسها، وهلم جرا. وما هو قيم بذاته يفصح عن ذاته. فكرة تسويق الأشياء تبدو مبتذلة وحيلة اقتصادية شريرة، لأنها تحدث على
ناهيك عن كونها حديثة وطارئة إلى حد ما، وغير مستساغة سيما حين يكون مقياس الجودة هو مدى انتشار الشيء/ الشخص جماهيرياً، وبمدى علو الضجيج الذي تحدثه.

في معظم الأحايين، أكن تقديراً كبيراً بل وتعظيماً لمن يبقون بمعزل عن هذا الإغراء. تلك القلة الصامدة التي تحترم نفسها وتحترم ما تفعله بحب وشغف، دون أن تجد نفسها مضطرة لأن تلقي بنفسها في سباق دعائي للسعي نحو القبول في نوع من التسول المقنع. والحقيقة أن المرء لا يود الخوض في مواعظ منافقة عن صعود الابتذال والزيف، أو التكرار الرتيب لأن البشر يتهافتون نحو الأشياء المزيفة، وأن " الأدب الجيد لا يقرأ، والفن الحقيقي لا يقدر والأشياء الجيدة لا ترى.. إلخ.. لكن ثمة بالفعل أدب رائع لا يقرأ، وأفكار عظيمة تكاد تنسى، وفن عظيم لا يتذوقه أحد، وبشر مدهشون لا يلتفت لمدى روعتهم أحد فقط لأنهم ليسوا من محبي الضجيج والشهرة والصخب.

وحينما يتعلق الأمر بالتسليع، أو ما يسمى بلغة ألطف " الاستثمار " في البشر، فإن الأمر بات ينحو منحى خطرا بعض الشيء، إذ أن ضرورات العصر طبعت فكرة أننا نحن كبشر جزء من السوق، أي مواد للتسويق. وهو ليس أمرا جديدا تماما، ففي التراث البشري، كان ثمة دوما نوع من التسليع للناس، في الغالب، كان الجسد هو السلعة. بدءا من بائعات الهوى إلى المحاربين ذوي القوة الجسدية الهائلة، إلى العبيد، وكل النساء الجميلات اللاتي كن منذ بداية التاريخ نوعا من الزينة، أو الثروة البشرية المربحة، كان الجسد البشري على الدوام مسوقا بمهارة. كان يعرض على الخاصة والعامة في أسواق النخاسة، ويثمن، ويباع، ويؤجر. ولم يكن من الممكن أن تقوم امبراطوريات العالم العظيمة لولا استثمارها لقوة الجسد البشري، متمثلة في ملايين العمال العاملين بالسخرة. بيد أن ما حدث اليوم، هو أنه بالإضافة للجسد، بات العقل البشري سلعة معروضة للبيع أو الايجار، الإبداع البشري له ثمن يحدده طلب السوق. المريب في الامر، أن الناس لم يعودوا يجدون غضاضة في الأمر، وكأنه أكثر الأشياء طبيعية واعتيادية في العالم.

فكم من مرة سمعت عبارة (سوقي لنفسك) وفكرت فيها: هل أنا سلعة؟ وهل يتحتم علي كي أشق لنفسي طريقا في هذه الحياة أن أستثمر وقتي وجهدي ومهاراتي - لا لأنمو على الصعيد الشخصي وأجد المعنى والرسالة الخاصة بي، بل لأتقاضى المال نظير ذلك - ثم أجد كائنا صغيرا بداخلي يهمس: إنها روح العصر، ما السيء في الأمر؟ كلنا نسوق لأنفسنا بشكل أو بآخر.
ربما هذا العصر الرأسمالي زرع في رأسنا أننا مجرد رساميل بشرية، أشياء تباع وتشترى، وتستبدل بسهولة. هو عصر التشييئ، جزء من مسيرة بشرية طويلة كان فيها الإنسان - جسداً- ملكية إقتصادية.. وبات فيها - عقلاً وفكراً ووجداناً- مجرد بضاعة مزجاة في سوق كبير مفتوح.


مقالات ذات صلة