ثقافة
08.01.22

صرخةٌ طويلةٌ جداً!

تحت سماء مدينة أوسلو التي اكتسبت حُمرة الدماء، يُسمع دوي صرخته

وجهٌ شاحب بفمٍ فاغر وعينين غائرتين، ملامحٌ باعثةٌ للحزن والكآبة..

هكذا حبس مونش لحظات هلعه في لوحةٍ خلدها الفن إلى يومنا الحاضر.

"الصرخة" كما وَّد إدفارد أن يعنونها، لوحة تبعث في نفسي شعوراً بالقلق والاضطراب، شعورٌ دفع فضولي للبحث، واستفزني حد الكتابةِ عنها!صرخةٌ يُخيل لنا سماع صداها الذي تلاشت أمامه التصنيفات الجندرية، نداء استغاثةٍ اطلقتهُ فرشاةُ مونش حُبِس في لوحةٍ تُعد اليوم ثاني أشهر لوحة في العالم، عبّر فيها الرسام "النرويجي" عن اضطراب البشر النفسي عامةً، وعن صراعاته الداخلية بشكل خاص. وكان مونش مدركاً لمحوريةِ مرضه النفسي في فنه، حتى أنه في وصف ذاتي لنفسه قال مرةً: " أنا بدون أمراضي النفسية سفينةٌ تسبح بلا هديٍ في بحر الحياة.”

نصيب الصرخة من مذكرات مونش| "صورة شخصية لمونش"

وعن اللوحة كتب مونش في مذكراته الشخصية: "كنت أمشي في طريق بصحبة صديقين، وكانت الشمس تميل نحو الغروب، وفجأةً انتابني شعور مباغتٌ بالحزن، وفجأةً تحولت السماء إلى لون أحمر، يشبه لون الدم، توقفت وأسندت ظهري على قضبان الجسر من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب، ومضى الصديقان في مشيهما، ووقفت هناك أرتجف من شدة الخوف، الذي لا أدري سببه، وما هو مصدره، وفجأة سمعت صرخة عظيمة، تردد صداها طويلاً عبر الطبيعة المجاورة‫."‬

‫وفي صفحة أخرى من المذكرات استطرد قائلاً: ‬"منذُ بدأت أن أتذكر وأنا أعاني إحساساً عميقا بالقلق، وهو ما حاولت أن أعبر عنه في لوحة الصرخة". ويُعتبر إدفارد من ركائز المدرسة التعبيرية التي عُنيت بفهم دواخل الإنسان وسط ربكةِ الحداثة، وزخم الخسائر الناجمة عن الحروب العالمية التي تزامنت مع بزوغ أولى ومضات نور الفن التعبيري..

الصرخات الأربع| "النسخة الأربعة للوحة"

ومن خلال تكرار لوحته في نُسخٍ أربعة، ودّ مونش أن جسد القلق الوجودي الذي يفتك به، بعناصر بسيطة وواضحة، وتموجاتٍ لونيةٍ لا تثير في النفس شعوراً بالطمأنينة، وقدرات تشكيلية ماهرة مكنّت إدفارد من تعميق الانعكاسات الباطنية في اللوحة على دهاليزه الداخلية.

حقيقة الصراخ| "بركان كاراكاتوا الغاضب"

تدور حول لوحة "الصرخة" أساطير وحكايا مختلفة تُحاكي الدافع الذي حفّز إدفارد لرسمها، منّها رواية تحكي عن وجود مسلخٍ قريب من الجسر المعلق المتجلي في اللوحة، إذ يُقال أن الصوت الذي ظن مونش أنه محض خيال مُرعب، كان صوت أنين الحيوانات أثناء ذبحها.

وتحكي رواية أخرى أن مونش قد رسمها حين اجتاح بركان "كاراكاتوا" الشهير عام ١٨٨٣ سكون أوروبا، وهذا ما يفسر وجود كسوةِ السماء القرمزية في اللوحة، حيث وصفت صحف الأنباء يومها المشهد المرعب بأنه "سماء تحترق" وكأن الغروب قد حل مُبكراً بشكل صادمٍ، ودون مقدمات.

في حين ذهب العديد من المحللين للقول بأن صرخات عائلته، أثناء وفاة شقيقته ظلت عالقة في مخيلته وترددت على سمعه مراتٍ متكررة.

بعيداً عن ذلك ثمة تحليلات متباينة تُعنى بجدلية الشخصية الرئيسة في اللوحة، بيد أن جزءًا من المحللين ذهب للقول بأنها مستمعةٌ للصراخ وليس مُصدرةً له، جزء آخر أفضى للقول بأن الفم الفاغر ينمّ عن اصدار صرخة ألم وقلق.

لصوص الصرخة المتعددون| "النسخة الموجودة في المتحف الوطني"

في جوٍ غلب عليه طابع الفرح، في ظل انشغال مدينة أوسلو بمباهج الاحتفاء الجماهيري بالألعاب الأولمبية، اختار اللصان الحاذقان توقيتهما المثالي لخطف اللوحة من المتحف الوطني بالمدينة...مُكللان سرقتهما برسالةٍ استفزازية تُركت محل اللوحةِ قالا فيها: "شُكراً جزيلاً على ضعف الجهاز الأمني"، لكن ولحسن الحظ تمكن الجهاز الأمني من إثبات عكس ذلك حين تم استعادة اللوحة خلال ما يقارب الأربعة أشهر من بعد سرقتها.

أما المحاولة الثانية فقد كانت تستهدف نُسخةً أخرى من اللواتي كُنَّ موجوداتٍ بمتحف “مونش”، وكانت السرقة متسمةً بطابع جريء ووقح حيث إنها وقعت في وضح النهار، اقتحم المتحف رجال مقنعين، مسلحين وقاموا بسرقة لوحةِ الصرخة ولوحة أخرى تدعى "مادونا"، والعجيب أن اللوحة بقيت مفقودة لمدة عامين كاملين! ثم وبعد إعلانٍ متأخرٍ جداً من شرطة المدينة ورد فيهم أنهم عثروا على اللوحة وسط تكتم شديد على تفاصيل السرقة.

في النهاية إن كُل هذا التهافت حول هذه اللوحة يُعد بمثابة دليلٍ قطعيٍ على براعة أنامل مونش التي تمكنت من خلق مشهد بصريٍ ما إن يُرى، حتى يعلق في الذاكرة.. ويخلد في الوجدان.

مقالات ذات صلة