يا فلذة القلب والأحشاء والكبد...
بهذا يبدأ الهمس أو النداء الأمومي للأبناء الأحباء، فلا شيء في العالم يمكن أن ينافس الأبناء على قلب الأهل. وحينما ينجب المرء طفلاً، فإن ثمة مشاعر جديدة تشع من قلب المرء، ويتغير ترتيب الأولويات في العالم بالنسبة إليه. هذا ما يقوله جل آباء العالم وأمهاته، ممن لا يألون جهداً ولا يدّخرون طاقة في سبيل رصف درب أكثر يسراً لصغارهم.
غير أن هذه النظرة قد تبدو مثالية بشكل مفرط حين نطلع عن كثب على الجانب العملي من الواقع المعاش، لاسيما من وجهة نظر الأبناء، لأن وراء كل مظاهر الحب والمودة تلك تتخفى نذر الصراع. صراع الثقافات والأفكار والآراء، وهي صراعات حتمية تخوضها كل الأجيال، ولا تتوقف سوى حين يصبح الأبناء بدورهم آباء وأمهات، حينها فقط تعقد الأجيال هدنة حقيقية. حيث يبدأ الطرف المتمرد بفهم كل ما اعتبره ولسنوات عدة نوعاً من السلطة الأبوية الخانقة، ويجرب بدوره ذلك المزيج المربك من مشاعر الحب والرغبة بالامتلاك والحماية وغيرها.
في البدء حين يستكشف الطفل هذا العالم ويعرف أنه كيان مستقل وقائم بذاته، تبدأ رحلة تمرده على الأم التي تحبّه بشدة. تحب إلى الحد الذي يمنعه من اختبار الخارج، فيثقل ضمير الطفل بالرغبة في الانعتاق وبالخجل من تلك الرغبة. في السنوات اللاحقة من عمر المرء، يعتاد بعض الأطفال على الحب المفرط والحماية المفرطة من الأب والأم حيث يكون هناك عالمين منفصلين تماماً: الخارج والبيت. عند نقطة محددة، يحدث الانفلات الخفيّ من سلطة البيت نحو سلطة الخارج (في المدرسة والشارع والجامعة) بحيث يضطر المرء إلى تعلّم وسائل جديدة تمكّنه من أن يكون ابناً وفرداً فاعلاً ومستقلاً في آن واحد. يمر ذلك بعديد من مراحل الصراع والتوبيخ والتمرد والمقارنات والندم.
في البيوت التقليدية والعامرة بالحب تمر الأمور بسلاسة إلى ح د ما، ولكن في بيوت أخرى تصبح الأمور مأساوية وخطيرة إلى فقدان الرابطة المقدسة التي تربط الأبناء بأهاليهم، وتنتهي بقطيعة تامة.
ومع مرور السنين وتبدُّل أحوال المجتمعات، تغدو التربية أكثر صعوبة بكثير. لأن التربية لم تعد حكراً على الأم والأب، بل ثمة أطراف كثيرة تتسابق كي تحشو أفكاراً في رؤوس الأطفال. بدءاً بأفراد العائلة الأوسع، وأبناء الشارع والزملاء في المدارس، والتلفزيون، وليس انتهاءً بالإنترنت. وفي عالم متغيّر كهذا، لم يعد الآباء والأمهات يعرفون ما عليهم فعله تماماً. فضلاً عن أن الصعوبات المادية والدنيوية والركض المحموم وراء لقمة العيش والمستوى المعيشي اللائق يدفع الأهالي لقضاء أوقات طويلة بعيداً عن الأسرة والبيت. وحتى في الأسر التي تتفرغ فيها الأم لشؤون البيت، يصبح من العسير فيها على الأم الاضطلاع بكل تلك المهام المنزلية والإشراف على تعليم الأطفال وتربيتهم، والإيفاء بالواجبات الاجتماعية وتصفّح الإنترنت.
" الشيخ قال حرام تراقبي أولادك"
هي عبارة سمعتها من أم خائفة، متحدثة عن لا معقولية العالم الذي بات مهووساً بالحقوق إلى درجة يصبح معها عسيراً اكتشاف الحدود التي يصبح تخطيها انتهاك. بشكل عفوي، رددت بأنه محق لأن مراقبة الأبناء انتهاك لخصوصيتهم، ولا شيء يبرر وضعهم تحت المراقبة الدائمة لأن ذلك لا يختلف كثيراً عن إقامة ديكتاتورية وإطلاق يد الاستخبارات فيها تحت ذريعة حماية المواطنين والحفاظ على أمنهم. فالأطفال أو المراهقين هم أفراد مثلنا تماماً، وهم بحاجة إلى الاهتمام والحب لكنهم بحاجة لمساحة خاصة كذلك. بيد أنني حاولت وضع نفسي موضع الآباء والأمهات، محاولة التوصل لمعرفة ما يشعرون به، وهذا ما جعلني أفكر: ماذا على المرء أن يفعل في عالم كهذا؟ في المواقف السابقة كنت أجد الإجابة التقليدية التي أرددها لنفسي: الحب والتفهم سيحلان الأمور. لكن هل يكفي ذلك حقاً في عالم شديد التبدل والانفتاح حيث كل شيء بات طوع بنان الطفل ورهن إشارته؟