في اليوم العالمي للصحة النفسية يقول خبراء وأطباء علم النفس أن الأمراض والحالات النفسية في تطور كبير جدا وبشكل ملحوظ على مدى العقدين الماضيين ويعود ذلك إلى عدة عوامل وظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية تستهدف فئة الشباب والأطفال وبقية أفراد المجتمع، وعادة ما تبدأ بالقلق والتوتر المزمن وتقف عند حد الاكتئاب في غالب الأحوال. ولكن مؤخرا انتشر مصطلح «الإكتئاب السياسي» الذي أصبح مثل المتلازمة عند الشباب في شمال أفريقيا بسبب الأوضاع السياسية المتقلبة التي بدورها تؤثر على الحياة العامة مما جعل فئة الشباب تشعر بأنها فقدت السيطرة على مصيرها ومستقبلها نتيجة الأزمات المتتالية والكساد السياسي والاقتصادي الذي لم يستثني أحدا من جميع طوائف المجتمع.
الاكتئاب السياسي والشباب حالتين متصلتين ببعضهما البعض ولا يمكن الفصل بينهما، فلكل منهما أتصال بشكل أو بآخر على قراءة الأحداث اليومية التي لا تخلوا من المآسي والتضخم الاقتصادي المسعور في مو اجهة ثبات معدل الدخل السنوي للفرد والحرمان الذي يلازم أبسط الحقوق الإنسانية الأساسية للحياة في محاولة منهم للعيش في المستوى الطبيعي الذي لا يضر بالناتج القومي الإجمالي أو يؤثر على البيروقراطية الحمقاء في المؤسسات الحكومية، لتكون معظم صادراتنا عبارة عن قوارب متهالكة للموت يمتطيها شباب العلا لعبور المتوسط هربا من جحيم الأوضاع التي خرجوا عليها عن قناعة التغيير خلال الربيع العربي ولأسباب عدة ويرأسها «الإكتئاب السياسي» الفتاك الذي لم يشفق على أحد.
الاكتئاب السياسي بين تونس وليبيا:
دعنا نتفق على أن أزمة هجرة الخبرات والأيادي العاملة بشكل نظامي وغير نظامي عبر المتوسط أصبحت نشطة خلال الأعوام الماضية وأسبابها تتنوع وهجرة الشباب على وجه الخصوص كثيرة وتجتمع في سوء الإدارة المركزية وعدم دعم أو الاكتراث للموارد الشابة النشطة وإبعاد الشباب عن أي مكان يخوله في المشاركة السياسية ليكون جزء من السلطة، بالرغم من تواجد الخبرة والمعرفة والأمثلة حية وكثيرة ولكنها مع الأسف خارج حدود الوطن بعد أن أصيبوا «بالإكتئاب السياسي»، لتكون كل المبادرات الشابة جزء من جهود فردية أو جماعية داخل إطار جمعيات شبابية ولا يتعدى تأثيرها النطاق المحلي. وبالنسبة للغة تمكين الشباب وإشراكهم في كل المسائل العامة هي مجرد شعارات يتم الإستعانة بها منذ سنوات كلما سنحت الفرصة في الخطب الحماسية والشعبوية أمام الجموع وفي الساحات وأيضا خلال الكساد السياسي.
وفي واقع الحال الشباب مصاب «بالإكتئاب السياسي» والملل من ذات المرحلة الانتقالية التي يتم تدويرها في كل فترة. فمنهم من يقاسي الحياة للحصول على الخبز بضعف أثمانه ولا يسد به جوعه ولا يشفي به مرضه والأخر يحزم أغراضه الخفيفة ويستعد للهجرة والذهاب إلى المجهول القاتم، وأفضلهم حالا يعاني في غربته لإثبات وجوده بعد أن أهملته حكومته التي من المفترض أن تقف معه لأن هذا واجبها في العموم. ولكن ما ذنب الشباب وخاصة نحن أجيال أصبح لدينا من الوعي والفكر السياسي ما يكفى ويزيد للتصدير بفضل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي فرضتها علينا السلطات التي تمتلك العصمة في كل شيء وأولها مصيرنا المحتوم في هذه القارة العجيبة.
الجانب المظلم من الاكتئاب السياسي
احتلت دول شمال أفريقيا مراتب متدنية جدا في مؤشر السعادة العالمي ومؤشرات الصحة النفسية والمشاركة الشبابية الفاعلة في السياسية ومؤشر النمو الاقتصادي وفي عدة مؤشرات عالمية معروفة بالحياد والموضوعية لهذا العام، حيث حلت تونس في المرتبة 85 عالميا من أصل [180 دولة] في مؤشر الفساد التابع «للشفافية الدولية 2023» متراجعة بأربع نقاط مقارنة بالسنة الماضية والسبب يعود إلى انعدام الرقابة البرلمانية أو القضائية المحايدة والمستقلة على مختلف الأجهزة الحكومية وسياستها العمومية، وضرب أحد أهم مبادئ الديمقراطية وهو التوازن بين السلط والرقابة فيما بينها، والمساءلة العامة لمؤسسات الدّولة مما يعزز حالة «الإكتئاب السياسي» بحسب تقرير «الشفافية الدولية 2023»، وحافظت ليبيا هي الأخرى على ترتيبها من ضمن قائمة الدول العشر الأكثر فسادا في العالم، والسبب أن «المسؤولين والعاملين في القطاع الحكومي يخدمون أنفسهم وذويهم بدلا من خدمة الشعب الليبي، في وقت تتصارع فيه النخب السياسية في البلاد مع بعضها البعض على موارد النفط وقمع الأصوات المعارضة لهم بكل الوسائل والآليات المحلية والدبلوماسية»، وخلصت إلى أن البلاد «لن تستطيع المُضيّ قدما إلا عندما يوقف القادة والمسؤولين الفاعلين حلقة الفساد والانقسام السياسي وتمكين الشباب قولا وفعلا». وفيما حلت المغرب في المرتبة 94 عالميا والجزائر 116 عالميا ومصر 130 عالميا.
فيما أظهر «مؤشر السلام العالمي 2023»، الذي نشره معهد الاقتصاد والسلام، إلى تدهور متوسط مائل للانخفاض حول السلام في الدول العربية بمقدار 0.42% لهذا العام، واعتمد المؤشر في اختياراته على ثلاثة مجالات أساسية (مستوى الأمن والسلامة المجتمعية، ومدى الصراع المحلي والدولي، ودرجة العسكرة)، وهنا بقت ليبيا في المرتبة 12 من أصل [21 دولة عربية] وتلتها مغاربيا الجزائر 8 والمغرب 7 وتونس 6 وهناك ارتفاع يتطور في كل عام بين حالات الأكتئاب والانغلاق السياسي والبطالة المقنعة وتباين في معدلات الجريمة نتيجة الأزمات والصراعات السياسية.
ونتيجة لكل هذا وقبل أن تقول صناديق الاقتراع كلمتها، أصبح واجب وطني على شباب العلا المشاركة السياسية بدافع توطين الخبرات وعلاج الأزمات والقضايا القائمة و اللا متناهية والتعبير عنها وعدم نسيانها والتشجيع للتحدث بها، وتداولها عبر المنتديات ومنصات التواصل الاجتماعي مع العائلة والأصدقاء، في ظل تسارع الأحداث العالمية والإقليمية، ولهذا أثر في صناعة التغيير الذي يتناسب مع تطلعاتنا وأن لا نكون مجرد أصوات توظف في فترة الانتخابات الجميلة أو من أجل تحقيق مصالح أطراف سياسية منبوذة. الشباب متعطش الديمقراطية والحوكمة والشفافية والمشاركة ا لفاعلة والمناصرة العادلة وضخ دماء جديدة، وعن المشاركة في تدبير الشأن العام والقضاء على معالم الاكتئاب السياسي الذي عصف بالمنطقة.