صحة
13.10.21

الصدمات النفسية: لماذا عليك مشاهدة فيلم The wisdom of trauma؟

في هذا الفيلم الوثائقي يستعرض طبيب النفس والأعصاب غابور ماتيه خلاصة دراساته التي اختصّت بإضطرابات القلق والأمراض المزمنة وتعاطي المخدرت وأمراض المناعة الذاتية، بالإضافة إلى الإنتحار والأرق وعلاقة هذه الأشياء بشكل مباشر بمصطلح الصدمة (Trauma). ويوضح غابور ماتيه بشكل بسيط أن هذه السلوكيات والأمراض تنبع أساساً من تعرّضنا إلى هزّات نفسية عميقة، هزات نفقد معها القدرة على تكوين رد فعل سويّ إما بسبب صغر أعمارنا أثناء التعرض لهذه الهزّات أو بسبب عدم قدرتنا على استيعاب الأمور في وقت ما.

ويوضح غابور ماتيه أيضاً أن حكمنا الذاتي على الأفراد وفقا لما هم عليه هو أمر خاطئ وأننا يجب أن ننظر للآخرين وفقا لما تعرّضوا له، لأن الآخرين بالضرورة لم يختاروا أن يكونوا مدمني مخدرات، ولا اختاروا أن يمتهنوا الجريمة، ولا اختاروا أن يكونوا مرضى عقليين بل الأمر بمجمله هو تأثير الصدمة (Trauma).

ويؤمن غابور ماتيه أيضاً بأن الفرد في علاقة ديناميكية ببيئته وأن صحة الفرد العقلية والجسدية رهن لثلاثة عوامل رئيسية هي: العامل البيولوجي والعامل النفسي والعامل الإجتماعي، وهو ما يطلق عليه علمياً لفظ النموذج البيولوجي النفسي والإجتماعي Biopsychosocial)) حيث يُمثَّل العامل البيولوجي بالطفرات الوراثية والتسلسل الجيني، ويُمثًّل العامل النفسي بالسلوكيات والاستجابات الفردية والتفاعلات البشرية الأولى، في حين يُمثّل العامل الإجتماعي بالتفاعلات داخل الحيز المجتمعي، من تفاعل الأفراد مع المؤسسات كالتعليم والمؤسسة الدينية وتفاعلهم مع الظروف الإقتصادية إلى تفاعلهم مع حالات السلم والحرب.

ويعتبر هذا النموذج بشكل عام هو الخلاصة النهائية للفيلم الذي ركز بشكل كبير على ظروف الأفراد الشخصية واستجاباتهم الفردية في مواجهة ظروف معينة، فالنتيجة التي نخرج بها من الفيلم هي أن الصدمات النفسية تنشأ لا إراديا بسبب عدم قدرتنا على تكوين ردود أفعال سليمة تجاه أمور تمسّنا شخصيا ولا نستطيع بأي حال من الأحوال التأثير فيها أو تغييرها.

الصدمة كقوةٍ لامرئيةٍ محركة:
يقول المثل الليبي الشهير "يكبر وينسى" كناية على أن الطفل لا يستوعب أساساً ما يحدث له أو أنه في أحسن الأحوال يستوعب ما يجري ولكن يتجاوزه بأقل مجهود ممكن، وهو مثل كان منتشراً حتى وقت قريب جدا، كان آباؤنا وأجدادنا ينظرون للطفل بهذه الطريقة باعتباره كائنا يتعامل بحيادية مع الأحداث التي تمضي في حياته، فلا يؤثر فيها ولا يتأثر، وهو ما أثبت العلم الحديث بطلانه، فأدمغة الأطفال المصابين بصدمات نفسية لا تشبه أدمغة الأطفال غير المصابين بصدمات نفسية، وما يحدث في الطفولة بالنسبة لغابور ماتيه وبالنسبة لعلم النفس الحديث أيضا هو ما يبنى على أساسه كل شيء، فالإحساس بعدم الأمان والتهديد العائلي والعنف الأسري بالإضافة إلى سلوكيات أخرى كالتنمر والحرمان وحتى الدلال المفرط، كلها أشياء تؤدي إلى تكوّن شخصياتنا وهي المحرك الأول لما نحن عليه اليوم.

ولم يكن غابور ماتيه هو أول من لفت انتباهنا لهذه الحقيقة فهي حقيقة أقدم بقليل من ذلك، فسيغموند فرويد عالم النفس النمساوي على سبيل المثال قد بنى جل أبحاثه في التحليل النفسي على هذه الحقيقة، حيث ربط ما بين نفسية الطفل في السنين الأولى وبين ما يكون عليه في سنين رشده، غير أن سيغموند فرويد لم يكن يهتم بمصطلح الصدمة (Trauma) بل كان يركز على قراءة هذه الأمور من منظورات جنسية.

The Wisdom of Trauma, Official Trailer

خطوة داخل الدائرة Step in side the circle
أهم المشاهد في الفيلم هو المشهد الذي صوّر مجموعة من المساجين يتم سؤالهم أسئلة مباشرة بخصوص تعرضهم لأي نوع من أنواع العنف : إن كنت لا تشعر بالأمان أدخل في الدائرة، إن كنت تعرضت لعنف اسري أدخل في الدائرة، إن كنت قد عشت مرحلة خوف من أن يرمى شيء باتجاهك ادخل في الدائرة..وهكذا دواليك. ويوضح المشهد هنا أن ما يقارب 90% من المساجين قد بدأوا في دخول الدائرة منذ أول سؤال ألقي على مسامعهم مما يعني أن الصدمات النفسية والعنف هو ما أثر في سلوكهم وجعله اجراميا.
إن فكرة الدخول إلى الدائرة يمكن اعتمادها في معرفة مدى الأثر الذي تحدثه سنين طفولتنا الأولى ونمط حياتنا في المراهقة في تكوين شخصياتنا المستقبلية وفي مدى تعاملنا مع صدماتنا النفسية الأولى.

يقول غابور ماتيه: مهمتنا كبشر هي التعلم من معاناتنا والنمو منها لا يتعين علينا إدامة الألم لأنفسنا وإلحاق المعاناة بالآخرين، ويضيف أيضاً أن النموذج المشترك لكل الآلام تقريباً والأمراض العقلية والمرض الجسدي هو في الواقع مجرد حدث ناتج بفعل الصدمة، وهذا الأمر يوضحه تفشي الإدمان والمرض النفسي والإجرام والإقدام على الانتحار وغير ذلك، فكل هذه السلوكيات هي مجرد رد فعل ارتداديّ تجاه صدمة تعرّضنا لها ولم نستطع مواجهتها بطريقة صحيحة.

ويمكن اختصار أعراض الصدمة في الآتي: الكوابيس والرعب الليلي، عدم القدرة على الحب، والسلوك الإدماني الذي يشمل ادمان السرقة أو المخدرات وحتى ادمان الإباحية، والأرق والكآبة، بالإضافة إلى الإحساس بالعار أو ما يطلق عليه مصطلح عقدة الذنب.
ويمكن في المحصّلة تعريف الصدمة بأنها انفصال عن الذات بحيث يصعب علينا أن نعبر عن أنفسنا، ويصعب علينا أيضاً إدراك ما نمر به، مما يجعلنا نحاول الهرب من آثار الصدمة بطرق غير سويّة، طرقٍ ملتوية تجعلنا لا نواجه أي شيء بشكل جدي بل نستمر في الهرب.

مقالات ذات صلة