ثقافة
06.12.21

المطبخ الجنوبي: حكاية حب وتاريخ غير مروي

وجبة ساخنة ولذيذة قد تعني السعادة، وتقول المقولة الشهيرة بأن من يعطيك طعامه؛ يمنحك قلبه.

وجميعنا نملك ذكرى عزيزة على قلوبنا، كان للطعام فيها دور مركزي. فحين نفرح، وحين نحزن، وحين نشعر بالوحشة، وحين نجتمع في جلسة عائلية يكون ثمة شيء لذيذ يعيد الدفء لقلوبنا، ويشعرنا بأن العالم لا زال بخير.

وفي ليبيا، ليس الأكل مجرد أكل فحسب. بل كان دوماً عنوان الحب ورسالة من عمق التاريخ، ففي الأفراح والأتراح، والأحزان والمسرات يكون الطعام حاضراً دوماً، حيث نتشاركه مع "طويسة" شاي أو قدح قهوة، أو كوب مشروب بارد. وحين نلقي نظرة على المطبخ الجنوبي الذي يأتي إلينا محملا بعبق صحرائنا الجنوبية، نجد ثمة أطباق كثيرة يتشاركها الليبيون كافة في شرق وغرب وجنوب البلاد، لكن نظرة أعمق قليلاً ستكشف لنا خفايا المطبخ الجنوبي الثري والمتنوع، ففي سبها على سبيل المثال ثمة أكلات شهيرة هناك يتفرد بها الشارع السبهاوي، وتجد لها صدى لدى قطاع واسع منه مثل المايناما، وهو طبق افريقي معد من اللحم المتبل. وانقاجي وهو طبق من أفريقيا جنوب الصحراء، يشبه إلى حد ما البازين، غير أنه يُحضر من دقيق الدخن أو "القصب" كما هو معروف في ليبيا، ومن حبوب القصب الكاملة. ويحضر الانقاجي بخلط قليل من الماء مع دقيق القصب وحبوبه؛ ويوضع على النار حتى ينضج ويؤكل مع الللبن أو الحساء الخاثر، أو "طبيخة الملوخية".

وهناك أيضاً المقّطع؛ وهو شقيق المعكرونة (السباغيتي) لكنه أكلة ليبية خالصة تحضر بعدة طرق، ويفضلها البعض في جنوب شرق البلاد بالقديد، والحلبة. غير أن أشهر أكلة في الجنوب، والتي تجمع كامل الجنوب من أقصى شرقه لأقصى غربه وتربطه بكامل ليبيا هو -بالتأكيد ودون منازع- طبق الفتات.

الفتات طبق مشهور في عموم ليبيا، لكن الجنوب الليبي يتفنن في تحضيره بعدة طرق، وبعدة إضافات. ولكل منطقة في الجنوب طريقته الخاصة في تحضير الفتات، فبداية يصنع الفتات من دقيق القمح المخلوط بالماء، والذي يتم فرده في شرائح رقيقة وتحميصه في التنور، أو على الطاوة حتى يستوي. ومن ثم يصنع المرق أو كما تسمى "طبيخة" ولكل منطقة طبيخها الخاص بها، لكنها في الغالب تصنع من اللحم والخضروات التي تطهى حتى تصبح ذات قوام خاثر، وتغطى بيها كسر الفتات التي تسقى بالمرق حتى تصبح رطبة ومغطاة بالطبيخ، وفي بعض المناطق تخلط فتات الفتات بالهريس وهو دقيق شعير منخول مخلوط بالطبيخ، ويسمى في بعض مناطق الجنوب "هريسة بالفتات"، كما أنه في مناطق وادي الشاطئ تشكل عجينة الفتات على شكل خبز غليظ، ويقطع لقطع ويغطي بالطبيخ.

أما المطبخ التباوي، فهو يشتهر بإحدى أغرب وألذ الأكلات في ليبيا وهي أبُر أو"Abur"، وهي تعد من أغرب الأكلات لأنها تتكون من الحنظل الذي اشتهر بمرارته التي قال فيها عنترة ابن شداد:

لا تَسْقني ماءَ الحياةِ بذِلَّةٍ بلْ فاسْقني بالعزِّ كاس الحنْظل

ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّم وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ

ويحضر طبق الأبرز من بذور الحنظل بعد أن تمر بمراحل طويلة من المعالجة تذهب عنها مرارتها، ويطحن بعد ذلك في مدق خشبي كبير لحوالي ساعة أو ساعتين مع تمر جاف حتى يخرج الزيت منه، ويصبح قابلا للتشكل في كتل، ويقدم للأكل في المناسبات السعيدة.

أما المطبخ الطارقي، فيشتهر بعدة أطباق بالغة اللذة اخترنا منها طبق "تامسين"، وهو قريب جداً من الفتات؛ غير أنه العجين المصنوع من دقيق القمح ورشة ملح وماء، تشكل على هيئة شرائح غليظة وتطهى في "التنور" حتى تحمر، وتوضع في صحن وتغطى بالطبيخ المكون من خضروات ولحم.

التماسين.. سيد الأكلات الشعبية في مدينة غات الليبية

كل هذه الوجبات اللذيذة ميزت مطبخنا الليبي الجنوبي وجمعت الأحبة بالأمس واليوم وستجمعهم بالمستقبل، وكما ذكرنا في بداية المقال فإن من يشاركك طعامه؛ يمنحك محبته. والليبيون حين يدعونك لمأدبة غداء أو عشاء ويشاركوك طعامهم، فهم لا يقدمون لك طعاماً فقط، بل يقدمون محبتهم ومودتهم لك، ويشاركونك تاريخ مطبخ هذا البلد العريق الذي توارثوه محمّلا بكل حب الجدات، ودفء الأمهات.

وإذا كنت تعتقد عزيزي القارئ بأن الأكل لا يؤدي وظيفة أخرى سوى سد الجوع، عد بذاكرتك إلى الوراء، إلى طفولتك، وستجد حتما ذكرى حميمة ارتبطت في ذاكرتك بطبق شهي، وبالمحبة والدفء اللتان قدمتا لك ذات مرة - على الطريقة الليبية!

مقالات ذات صلة