لطالما سمعنا عن الاختلاف، التميز، والخروج عن المألوف، وخاصة في عصر “ارتقوا فالقاع مزدحم". اليوم أصبح الجميع قادر على إبداء الرأي والصراخ عالياً بفلسفته الخاصة التي هي أحياناً كثيرة ما تكون غير مبنية على أدلة سليمة ومثبتة؛ بل مجرد هرطقة اعتاد هو نفسه سماعها هنا وهناك وبات يرددها حتى صدّقها وأخذ يقنع بها من هم حوله من البسطاء المبهورين بالمفكر أمامهم الذي يبدو وكأنه التهم كل ما في مكتبة الإسكندرية من كتب، مقالات، ومراجع علمية وتاريخية الحديثة، وحتى القديمة منها. يريد الجميع الاختلاف ويتباهون به وكأنه طوق النجاة الذي سينقذهم من هذا القاع المزدحم. وفي خضم هذا الجدل لا يزال الاختلاف هدف يسعى الكثير من الأشخاص لتحقيقه في مسيرتهم الحياتية ويفضلونه على النجاح في كثير من الأحيان. ما يدفعني أحيانًا للتساؤل؛ ماذا يعني أن تكون عادي، أي لست مختلف؟ هل يعني أن تكون فاشل مثلاً أو غير مرئي حتى؟
"باهي هو إني عادي نكون "عادي" ولاّ بدت موضة قديمة"؟
عادة ما يرتبط نجاح الشخص من عدمه بقدرته على التفرّد والتميز عن غيره في محيطه أو المجتمع الذي ينتمي إليه؛ سواء كان هذا التميز في شخصيته وطريقة تبنيه لأسلوب حياة معين، أو من خلال طبيعة عمله وما يقدمه للناس من خدمة، منتج، أو حتى طريقة أداء معينة. إذا كنا نتحدث عن راقص، مغني، وممثل، وفي مثالنا الأخير لدينا كثيرون؛ فمن لا يتذكر "السليطة" التي وقعت على الممثلة المصرية "ياسمين صبري" في رمضان هذه السنة من خلال عملها الدرامي الذي وصف الكثير تمثيلها فيه بالكارثة لتظهر هي بعد فترة وتصرّح بنجاح المسلسل نسبة إلى عدد المشاهدات التي أحرزها على موقع "يوتيوب". ناهيك عن أن هذا النجاح والتفرّد يمكن أن يُختصر في مظهر الشخص وهيئته الخارجية؛ المتمثلة في تسريحة شعر ملوّن أو ثياب غريبة وملفتة للنظر. قد يبدو ذلك معياراً ساذجاً وغير منطقي البتة؛ ولكنه في الواقع موجود بالفعل ويمكن إثباته، بغض النظر عن تقبلنا له واقتناعنا به أو رفضنا له.
إن مفاهيم كالشهرة، النجاح، والاختلاف أصبحت غريبة ومعقدة حتى بات الحكم عليها وتعريفها بشكل صائب وسليم يتطلب الكثير من المجهود والحروب على ساحات السوشيال ميديا والإنترنت، حيث تعد هذه الساحات هي الأشرس اليوم والأكثر ضراوة مقارنة بساحات معارك الأمة العربية التاريخية حين كانت في أوج عظمتها.
ينفر الجميع اليوم من كل ما هو عادي بداية من شكل مائدة طعامهم إلى تخصصاتهم الدراسية ووظائفهم المستقبلية. وهنا يذكرني واحد من فصول كتاب "How to steal like an artist" تحت عنوان (Be Boring it's the only way to get work done) يتحدث الكاتب "Austin Kleon" في هذا الفصل عن شخصيته المملة والمضجرة في رأيه؛ فهو مجرد زوج عادي، يمتلك كلباً وبيتاً في شارع هادئ ووظيفة بدوام كامل. مع أنه يجب أن يكون "مختلف" نسبة إلى أنه شخص مبدع وكاتب مشهور؛ وهذا يرجع إلى الصورة النمطية التي اعتاد البشر تكوينها عن الشخص "الفنان" الذي عادة ما تكون حياته مجنونة وصارخة.
وفي فصل ثان تحت عنوان "Keep Your Day Job" يتحدث أوستن عن ضرورة الروتين الذي تخلقه الوظيفة الاعتيادية أو ما يطلق عليها "الوظيفة المكتبية" التي هي في رأي الكاتب تضمن للشخص المال الجيد من خلال راتب ثابت وتتيح له فرصة التواصل مع العالم الخارجي الطبيعي الذي يمكن أن يساعد الشخص المبدع في إنتاجه ويكسبه العديد من المهارات الأساسية الواجب أن يكتسبها كل فرد في عصرنا اليوم. وبالرغم من أن هذه الوظيفة بساعاتها الطويلة يمكن أن تسرق من وقتك وجهدك الكثير، لكنها حسب أوستن تبني لك الروتين المناسب الذي سيمكّنك من خلق النظام المثالي لشخصك المبدع الذي أنصحك بإيقاظه من خلال كتب أوستن المثيرة للاهتمام.
بعد حديثنا وفي الختام، هل تعتقد حقاً أن هناك ما هو مختلف في العالم اليوم؟ أي أن الإنترنت حرفياً قد جعل العالم أشبه بقرية صغيرة كما قرأنا في كتب الحاسوب بالمدرسة، أصبح هناك مئات النسخ مني ومنك، نقرأ نفس الكتب، نتابع نفس المسلسلات والأفلام، نسمع نفس الأغاني ونستمتع تقريباً بنفس الأشياء. هذا بالتأكيد لا ينفي صفة الاختلاف التي هي أساس طبيعتنا البشرية، بالرغم من إننا قد بدأنا نفقدها رويداً رويداً نتيجة إلى عدد من المؤثرات والتراكمات التي تحتاج منّا مقال آخر للتحدث عنها.
وفي سياق آخر هل تعتقد أنه على الفرد أن يبذل مجهود ليختلف ويحقق النجاح بعد أن يجعل منه هدفاً؟ على أي حال لن أجهدك بالكثير من التساؤلات بل سأرافقك إلى نهاية الطريق بخاتمة بسيطة مفادها أن الاختلاف طبيعي سواء من ناحية الشكل أو الشخصية، أما ما ليس بطبيعي هو رغبتنا الملحة للاختلاف وكأنه يعطينا أفضلية عن غيرنا أو يرتقي بنا إلى أرض أكثر جاذبية من الأرض التي نقف عليها جميعنا عاديين ومختلفين.