طوابير المصارف...قصة بؤس لم تنتهِ

طوابير تصطف مزدحمة من ساعات الفجر الأولى تنتظر من مكافأة عرق شهور عملها، فتاتاً تسد برقمها دخل معيشتها الغالية. هنا حكايات صباحية أمام كل مصرف في تراب ليبياتنا، والبالغ عددهم 20 مصرفاً و حوالي 550 فرعا ووكالة، بكادر وظيفي يقارب العشرين ألف موظف.

فلا في برد الشتاء خفّ الازدحام عليها، ولا في أيام الصيف راحة فيها، أما في داخل هذه المباني، هنالك عالم آخر غير الذي نعيشه، بمجموع 21.6 مليار دينار وهي ميزانية المرتبات في ليبيا لسنة 2020.

بطاقات أرباب الأسر أيضاً في قائمة الانتظار، وهي التي كلفت السنة الماضية قرابة 7.5 مليار دولار، موزعين في مليون بطاقة تقريباً، والتي تم ربطها مع الرقم الوطني مؤخراً، أما باقي البطاقات فهي تحت الإجراء.

على شفى الانهيار
كشف بيان مصرف ليبيا المركزي حجم الإيرادات العامة في سنة 2020 حتى أغسطس فقط، 3.346 مليار دينار، بمتوسط شهري بلغ 478 مليون دينار، حيث بلغت الإيرادات النفطية منها 2.218 مليار دينار، بينما بلغت الإيرادات السيادية الأخرى 1.128 مليار دينار. أما في جانب النفقات الفعلية فقد بلغت 19.077 مليار دينار، بمتوسط إنفاق شهري بلغ 2.72 مليار دينار، حيث شكلت نفقات الباب الأول المتعلق بالمرتبات النسبة الأكبر حيث بلغت 58% (لا يشمل مرتبات شهر يوليو) ثم يلي ذلك نفقات الدعم بنسبة 12%.
بينما بلغت تحويلات الدولة 3.209 مليار دولار أي ما نسبته 32.4% من إجمالي الاستخدامات، بينما بلغت قيمة الاعتمادات المستندية والمستندات برسم التحصيل ما قيمته 4.519 مليار دولار وشكّلت ما نسبته 48.5% من إجمالي الاستخدامات.

فكم من طالب علم استغني عن كتابه في بلاد المهجر وعاد خائباً، ، لأن غيره ينعم بالدولار رقصاً في الحنات. قد وصل عددهم إلى اثني عشر ألفا ومئة وتسعة عشر طالباً وطالبة وصلت منحهم إلى أرقام فلكية. وكم من مريض مات قهراً بداء قلّ دواؤه وزاد من ثمنه أضعافاً، وغيره يعيش بذخاً وسخاء، وينام شخيراً ويستيقظ عصراً. وكم من خطوبة فسخت، وعرس تأجل، ومنازل لم تستكمل، وبنات عنست، وشباب حرق بحراً، وهرب جواً، أو قاتل في حروب براً بسبب ذهب تغلي، وسيولة تبخرت في إناء الطلبات اليومية البسيطة.

المعادلة هنا تقول أن متوسط الدخل في بلاد المختار هو 18 ألف دينار سنوياً، في المرتبة الثالتة والستين عالمياً، والتي لا تساوي شيء كقيمة شرائية. بداية بأسعار الذهب التي تبدأ من 233 دينار ووصولاً إلى صندوق الزيت ب 50 دينار، والدقيق بعشرة دينار، والإسمنت ب 55 دينار.

هل توحيد المركزين هو الحل؟
عملات نقدية تُطبع هنا وهناك، لكل منهما توقيع، لعلها تملأ خزائن مصارفنا الخاوية. في مد وجزر بين أطراف صراع تتنازع على قانونيتها، شرعي يدعي نفسه هو الأحق بها، فيتعامل بها بذخاً وسخاء، وآخر نزيه يرفضها في مصالحه، ويجوّع طوابير تصطف قبل الفجر بساعات لعلها تأخد فتات مرتباتها المتأخرة. هذا هو دينارنا الليبي، بنفس اسمه وصورته، من رأس جدير حتى لمساعد، لم تتغير ملامحه ولا حتى إخفاقاته، اللهم إلا توقيع تنازع عليه بعضهم، فصار غريباً ذليلاً في مدينة، وعزيزاً كريماً في مدينة أخرى من بلادنا.

فقيمة العملة المتداوالة في ليبيا بلغت 55 مليار دينار، منها 38.6 مليار دينار من العملة لدى الجمهور و1.4 مليار دينار لدى الجهاز المصرفي، بالإضافة إلى 15 مليار دينار عملة مطبوعة لدى المصرف الموازي في البيضاء وتوزعت ما بين التداول في السوق والاكتناز في البيوت.

الدينار والتغيرات في حياتنا اليومية
حتى في العرف والعادات الاجتماعية وسدها المنيع في صد التقلبات غير المقلوبة، رفعوا الراية البيضاء، وسلّموا أمرهم للواقع، وتخلّوا عن جزء كبير من تفاصيلهم، ليملؤوا فراغ السيولة ونقصها. فأصبحت الأعراس عائلية في نطاق ضيق، والمهر وتكاليفه بقيمة رمزية، وحتى المآتم فيها العزاء مرتين، للفقيد الذي تحت التراب، والمفقود بين المصاريف.
رغم أن ليبيا أنفقت 425 مليار دينار (303 مليارات دولار) خلال السنوات التسعة الماضية، فإن الأموال التي أنفقتها لم تذهب للاستثمار أو لتحريك عجلة الاقتصاد بل ضختها للاستهلاك، منها 186 مليار دينار على الأجور و71 مليار دينار لدعم المحروقات، ما يفسر عدم تحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين.
وصل تردّي الأحوال أيضاً للأسواق، فنام حالها سباتاً، وأخلت المحلات بضائعها، ووقف حال التجّار، وبدّل بعض العمّال حرفهم، لأن السيولة في المصارف لم يفرج الله كربها. فمن سيحرك نشاطهم؟ وصلت الأسعار لأعلى القمم، أما جيب المواطن في منحدر الرغبات.

من شاف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته
كما أن هناك 118 ألف باحث عن عمل في كامل ربوع البلاد حتى نهاية العام الماضي وفقاً لمركز المعلومات والتوثيق التابع لوزارة العمل والتأهيل يحلمون دورهم في طوابير المصارف.
هنا فقط يغلق المصرف بابه، في انتظار غد يحمل الأفضل، لعله يزيح الطوابير الطويلة، وتتلاشى فيه هموم أصحابها.

مقالات ذات صلة