فيلم المنصة ومعضلة العدالة الإجتماعية

فيلم المنصة (The platform) ومعضلة العدالة الإجتماعية

لم يكن الفيلم الإسباني المنصة (platform\el-hoyo) مجرد فيلم إثارة وغموض كما جاء تصنيفه ضمن منصة نيتفلكس للعرض، بل هو في حقيقته فيلم فلسفي يناقش معضلات نفسية واجتماعية عميقة، فماذا يعني التكافل الإجتماعي؟ وماذا يعني التوزيع العادل للثروة؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ هل يتم تحقيقه بالتهديد والوعيد (الاحتكام للقوة) أم يتم تحقيقه عن طريق وازع أخلاقي بشري؟
إن الفيلم في مجمله يناقش الحياة كما نعيشها اليوم حيث الأقوى يسحق الأضعف، حيث لا عدل ولا قيم. ورغم أن الفرص والموارد متاحة للجميع تقريبا إلا أن الاستئثار بها يتم عن طريق أقلية بسيطة تحرم الباقين من التمتع بواقع جيد.

بنية الفيلم (قصته):

يبدأ الفيلم بجملة قصيرة مفادها: "هناك ثلاثة أنواع من البشر في هذا العالم، مَن هم بالأعلى، ومَن هم بالأسفل، ومَن يسقطون" وتشير هذه الجملة إلى التقسيمات الطبقية داخل المجتمع، حيث يمثل الفيلم خلاصة الوضع البشري في محيط تجربة رمزية ذات دلالة واضحة، حيث تدور أحداث الفيلم داخل سجن فريد من نوعه يضم مجموعة من الطوابق والغرف التي يتواجد بكل منها سجينان اثنان فقط، في حين تمر منصة الطعام نزولا من الطابق الأعلى إلى الأسفل، وتكون المنصة عامرة بكل أنواع الطعام والشراب والحلوى والتي تكفي لستمائة شخص تقريبا (وهو عدد المساجين بالمجمل)، وحين تنزل منصة الطعام بشكل عمودي نحو الأسفل تستقر في ذلك الفراغ الموجود بأرضية كل غرفة لمدة دقيقتين فقط، ومن ثم تذهب إلى الطابق الذي يليه، حيث مجموع الطوابق يصل تقريبا لثلاثمائة طابق، ويجد السجين نفسه كل صباح في طابق مختلف، فاليوم ربما تكون في الطابق الأول أو السادس حيث تأكل بشكل جيد، في حين تجد نفسك في اليوم التالي في الطابق المائة حيث يصبح الطعام شحيحا.

رمزية منصة الطعام:

تعبر منصة الطعام بشكل أو بآخر عن الموارد والفرص المتاحة للبشر، حيث تكون المنصة مليئة عن آخرها ومنظمة بالنسبة للطابق الأول، في حين تنحدر ويفسد محتواها أو ينتهي عن آخره بمرور الطوابق، حيث يتعمّد الكثيرون ممن يحالفهم الحظ في التواجد في الطوابق الأعلى أن يقوموا بتلويث الطعام الموجود على المنصة دون أي اعتبار لمن هم أسفل منهم، ويأكلون منها بشكل زائد عن حاجتهم، في إشارة واضحة إلى الجشع والأنانية البشرية التي تغزو الطبقات العليا من المجتمع، حيث نجد في حياتنا اليومية أن الكثير من أصحاب الأموال يقومون بالإسراف في الأكل في مقابل غض الطرف عن جارهم الذي يتضور جوعا.
وقد يصل البعض (في الفيلم) إلى مراحل عميقة من الأنانية حيث يقومون بالتبول على مائدة الطعام كي ينتقموا ممن هم أقل منهم مرتبة. ويوضح الترتيب العشوائي للطوابق عامل الصدفة الذي يجعل شخصا ما في أعلى هرم المنصه فيما يجعل الآخر في الأسفل.
ويوضح الفيلم أن التكافل البشري الطوعي غير ممكن البتة، حيث تتواجد شخصية في الفيلم تقوم مهمتها على حث من هم أسفل منها وأعلى منها على أكل ما يلزمهم فقط وترك الباقي لمن هم أقل منهم، وتستمر هذه الشخصية في التوسل للجميع غير أنه لا أحد أبدا يعيرها أي اهتمام، وتمثل هذه الشخصية (في نظري) الضمير البشري أو الوازع الأخلاقي الذي نقوم بتجاهله حين نكون في معركة حقيقية من أجل البقاء.

الرأسمالية والإشتراكية:

وللفيلم أيضا رمزية أخرى تتمثل في الصراع القائم بين الرأسمالية والإشتراكية كأنظمة اقتصادية تشكل الوعي الإجتماعي للأفراد، حيث تتسم الرأسمالية بالتنافسية الشديدة وعدم النظر سوى للمكاسب المادية، في حين تتسم الإشتراكية بأنظمة ذات عدالة إجتماعية كبيرة حيث التفاوت الطبقي يكون منعدما.
ويعبر الفيلم عن توحش الرأسمالية التي تقوم في أساسها على فكرة الإنتخاب الطبيعي (الأفضل يبقى والسيء يندثر) حيث تشجع الرأسمالية وجود الطبقات الاجتماعية، فهناك طبقة غنية هي المالكة للمصانع وطبقة فقيرة وهي الموظفين في المصانع، بينما تشجع الإشتراكية وجود طبقة وسطى، فهي تأخذ من الأغنياء وتعطي للفقراء حتى يحدث توازن داخل المجتمع حيث لا يوجد طبقة مالكة، بل كل الموارد هي ملك الدولة توزعها بطريقة عادلة على الجميع.
ويتمثل هذا الأمر ضمن الفيلم كحقيقة تجب مراعاتها فالموارد تكفي الجميع ..لماذا لا نتقاسمها؟ وهو السؤال الذي دار بذهن البطل الذي قرر أن يقوم بفرض نظام معين بالقوة، حيث قرر ذات يوم أن ينزل عبر المنصة إلى الطوابق كلها ويقوم بتقسيم الطعام (الموارد) بشكل متساوي على الجميع بقوة السلاح ليضمن بقاء الجميع على قيد الحياة، وذلك كي يرسل رسالة لإدارة السجن مفادها أن جميع من في السجن (الذي يمثل ربما الحياة بمجملها) استطاعوا أن يتكاثفوا اجتماعيا في سبيل تحقيق مصلحة الجميع.. إلا أن نهاية الفيلم لا توضح إن كان البطل قد نجح في ايصال هذه الرسالة أم لا.

دون كيشوت والدونكيشوتية:

ويجب أن نشير هنا إلى رمزية الكتاب الذي احتفظ به البطل في السجن والذي كان عبارة عن رواية دون كيشوت للكاتب الاسباني ميغيل دي ثيربانتس التي تمثل قصة رجل أحمق ظن نفسه في مهمة مقدسة، حيث انتهى أمر دون كيشوت إلى مصارعة طواحين الهواء في اشارة واضحة إلى أن مُهمة البطل كانت مجرد حرث في البحر ولم تُؤدي هذه المهمة غرضها المطلوب، ربما لأن العدالة الاجتماعية أمر مستحيل او ربما لأن البطل أصلا اكتفى بالتفكير دون العمل وأن كل ما حدث في الفيلم هو مجرد خيال في ذهن البطل الذي يمثل الدونكيشوتية بكل المقاييس، حيث يقول مُخرج الفيلم غالدير غاستيلو: "إن الطابق الأخير ليس موجودًا من الأصل، البطل مات قبل أن يصل إلى النهاية، وكل ما حدث، هو تصور البطل لما ينبغي عليه أن يفعله"

شوية مع شيكا | بلاتفورم

مقالات ذات صلة