التجربة الليبية...درس أم لعنة؟

يفكر المرء بأنه سوداوي الطابع حين يرى في الأمور أشياء أخرى غير بهجتها الراهنة، وحين يتوقف عن اجتراح التفاؤل ويبدأ بالنظر بعينين كئيبتين إلى البلاد العالقة في حلقة من الجنون والتعاسة. لاسيما حين يقرأ مقالات الكتاب الليبيين التي نشرت في الصحف الليبية إبان العهد الملكي، فيردد ببلاهة طفولية: "زعما البلاد قاعدة اتقدم ولا اتوخر؟"

يندفع المرء بميله الطبيعي لرثاء الذات والتذمر إلى سرد كافة الآفات التي ابتليت بها البلاد: الغباء الاقتصادي، الفساد، غياب الرؤية، الفشل السياسي، الاقتتال الداخلي، الضحالة الفكرية، التردي المعيشي، الانغلاق، الأحادية والتمييز.. إلخ، وخلال ذلك سوف يشعر بأن الدنيا "جابت ما فيها"، وأن لا شيء أسوأ أو أفضل يمكن أن يحدث بعد الآن، كما لو العالم وصل لنهايته. لكن في لحظة ما يتناهى إلى وعيه إدراك بأن تضافر تلك الأعراض - والذي يشكل مستقبلا واعداً بالمحن لأي شعب في دنيا الله- سوف يمضي؛ كأي شيء آخر.

بعد عشرة أعوام من الثورة، هل لا يزال من المبكر التساؤل عما حدث؟ وهل بإمكاننا أن نعي وعياً حقيقياً حقيقة ما تعرضنا له وعشناه خلال هذه الأعوام التي مرت بسرعة، لكن دون خفة؟
لكل منا إجابته، إذ أن كل فرد منا له قصته الخاصة به. كفرد من هذا الشعب المكلوم، بدأت التساؤل منذ سنين عما حدث، وسمعت مئات الأجوبة، عايشت منذ الصبا الباكر كل العواطف المتأججة التي اكتشفها الشعب لأول مرة خلال تلك السنة، عايشت الحب والوطنية الملتهبة والارتباط القوي لأبناء الشعب، كما عايشت عن كثب الدم والغضب والفقد والانتقام الأعمى. اكتشفت مدى عمق التجربة الإنسانية في عام واحد، وفي سن مبكرة.

اليوم، لم أعد أمتلك القدرة على النظر ورائي دون حسرة؛ مثلي مثل جيل كامل من الشباب. لأن آمالنا وأحلامنا ظلت عصية على التحقيق، ولأن البلاد باتت غير قادرة على تقديم شيء لنا، حتى توصل قطاع عريض من هذا الجيل إلى حلم واحد مشترك؛ ألا وهو: الفرار.
بيد أنه وبعد دقائق من التردي وسط تلك الهوة المحزنة من رثاء الذات، أعود لأنظر بعين أخرى أكثر واقعية ونضجاً إلى كل ما حدث. إلى مئات المبادرات الشبابية الساعية للتغيير، إلى الوعي المتعاظم لدى فئات الشعب كلها، إلى النشطاء في مجال الحقوق والحريات والمطالبين بقيام دولة مدنية على أنقاض الدولة القديمة، إلى مئات الناجين من الاختطاف والاعتقال والاعتداءات والذين لم يستسلموا للتحطم ولم يتوقفوا مرة واحدة للتساؤل عما إذا كانت القضية تستحق هذه التضحية المضاعفة، إلى مئات رسائل الدكتوراة والماجستير التي تناقش في شتى أصقاع الأرض لأجل هذه البلاد، وإلى الشباب الصغار الذين بدأوا بقوة وعزم على تأسيس مشاريعهم الخاصة في بلادهم من تحت الصفر، فقط لأنهم مؤمنون بأن على هذه الأرض ما يستحق الأمل والحياة.

بعد كل تلك المعجزات البشرية التي قاومت ولازالت تقاوم من أجل بناء بلد حقيقي - وطن حقيقي، كيف عساي أن أتوقف عن المقاومة واستسلم لمحن أعرف معرفة اليقين أنها ليست خالدة، ولا لعنة أبدية؟
أقتبس من مقالة قديمة لي هذه الفقرة:
" أؤمن بأن الوضع لن يسوء إلى حد يفوق قدرتنا على التعامل معه. كما أن ولادة المقاومة الحقيقية، والوعي الجمعي، والرؤية الناضجة لغد يكون فيه وجود الإنسان على هذه الأرض أكثر ملائمة لقداسته، لن تتحقق دون خسائر ومتاعب، لأن لا شيء جميل يمكن أن يتحقق دون كلفة.
وكما إن المقاومة رد فعل، مقاومة الظلم واليأس والتعسف ومصادرة الإرادة والكراهية والموت والوصاية، فإن الكفاح رد فعل، والوعي رد فعل. وقدرنا كشعب أن تكون المقاومة أسلوب حياة لنا، وليست مجرد رد فعل مؤقت..."

مقالات ذات صلة