ثقافة
12.01.21

السنة الأمازيغية في ذاكرة الحضارة الليبية...تقويم فلاحيّ بأجواء احتفالية

التقويم الأمازيغي هو سنة فلاحية قديمة في ليبيا بدأها الليبيون القدماء في حساب أيامهم وشهورهم. رأس السنة في هذا التقويم يوافق ليلة الثالث عشر من يناير، حيث يكون هذا اليوم متمماً للسنة القديمة ويوم الرابع عشر هو أول أيام السنة الجديدة. لهذا التقويم بعد فلاحي أكثر من كونه شيء آخر، فبداية العام تشكل نهاية وخاتمة للمئونة الماضية وبداية التحضير للمحصول القادم.

يعود تاريخ السنة 2971 لليوم الذي تربع فيه القائد الليبي شيشنق على عرش الحكم في مصر، وذلك في السنة 950 قبل الميلاد، في عهد الأسرة الواحدة والعشرون التي كان يقودها الملك الفرعوني " رمسيس الثالث". استطاع الأمازيغ تأسيس الأسرة الثانية والعشرين، بعدما تمكنوا من الانتصار على الفراعنة ليكون شيشنق أول فرعون يأتي من خارج بلاد النيل والحاكم الثاني عشر في تريب من تقلدوا سدة حكم إقليم مصر. وتوثق النقوش التاريخية المحفورة على أعمدة معبد ″الكرنك″، في مدينة الأقصر بمصر، لهذا النصر العسكري وتتحدث تلك الآثار عنه بالتفصيل.

التقويم الليبي هو الأقدم
الناشط الأمازيغي سليمان حمان من مدينة يفرن شرح لنا بعض التفاصيل عن التقويم الأمازيغي. ومن بين أسماء الأشهر بالأمازيغية ترتيباً من الشهر الأول زمنياً حتى آخر السنة: (يناير، فورار، مغريس، برير، ميو، جونيو، يوليو، غشت، شتمبر، كتوبر، نونبر، دجمبر). أما فصول السنة وطول الشهور عند الأمازيغ هو نفسه في التقويم اليولياني، أيّ ثلاث سنوات مكونة من 365 يوماً تليها سنة كبيسة مكونة من 366 يوم. أما الشهر فينقسم إلى 30 أو 31 يوم مع بعض الاختلافات الطفيفة في حسابات شهر فبراير.
وهذا ما يؤكده جون سيرفيي وهو أن التقويم الأمازيغي ليس مشتقاً من التقويم اليولياني، كما يظن علماء الفلك الغربيين اليوم، وإنما من التقويم الفلاحي الأمازيغي حيث عزم الرومان على تطوير فلاحتهم فلم يروا في التقويم الروماني القمري التقليدي جدوى. فما كان على يوليوس قيصر إلا الاقتداء بالتقويم الفلاحي الأمازيغي وبالحساب الشمسي واستعان في ذلك بعالم الفلك الأمازيغي أو الليبي حسب التسمية القديمة سوسينغ (سوسينغيوس كما يسميه الرومان). ثم أضفى عليه فيما بعد البابا غريغوريوس بعض التعديلات، وبالتالي تصح تسميته بالتقويم الأمازيغي-الغريغوري، وهو نفسه المعتمد حالياً كما يؤكد كذلك إيدمون دوتي الباحث الفرنسي بأن "التقويم الامازيغي إلى عهد قريب كان هو السائد في اليونان".

طقوس الأكل
ولأنها سنة فلاحية، فإن الحصاد يعتبر الرزق الرئيسي للمزارع، وهذا ما انعكس على الأكل وطريقة استقباله لهذه المناسبة. واختلف من منطقة إلى أخرى، حسب نوع محصولها ونمط حياتها. فكان لكل مطبخ أجواء خاصة به في هذا اليوم تختلف عن باقي أيام السنة. بداية بالطقوس المتعارف عليها في ليلة رأس السنة، حيث لا يتم غسل الأطباق والأواني حتى اليوم التالي، الذي تقوم فيه العائلة بتغيير الأواني القديمة بالجديدة، ويتم تنظيف الفرن والرحى وكل أركان المنزل.
هنالك أكلات معينة لهذا الحدث السنوي، فمثلاً الأكلة الأمازيغية الأكثر شهرة هي الكسكسي التي تُحضّر بعدة طرق وحسب المتوفر من مواد حسب كل منطقة. ولكن الأغلبيّة كانت تحضر الكسكسي بلحم الدجاج كأكلة خاصة بهذا اليوم تحديداً.

وهناك الأكلة الرئيسة الأخرى، وهي (اتمغطال) أو ما يعرف بالهريسة باللغة العامية الليبية، وهي أكلة تصنع من حبوب الشعير المدقوق مكونة من مجموعة من البقوليات والحبوب، ويكون معها في رأس السنة فك أضحية العيد الكبير(الحنك) ولحم الكتف كما يُطبخ معها لحم القديد.
وفي ليلة رأس العام يتم صناعة البازين مع القديد الذي يشمل (اغزرام) وهو عظم الفخذ و(تغسدسين) وهما أضلاع القفص الصدري على أن يقدم كل ضلع للأبناء، وأن تطبخ لكل فرد من أفراد العائلة بيضة يأكلها.
أما في صباح اليوم التالي، يتم تقديم (تروايت) أو العصيدة، وتكون عادة بالرُب أو بالزبدة والعسل. وفي أول يوم في السنة الجديدة يتم صناعة (طومّن أملال) أي البسيسة البيضاء ويتم صناعة البازين الغليظ، وهو أحد أنواع البازين، لكي يأتي عام غليظ و يحمل معه الخير و البركة.

ولأن حياة الفلاح بسيطة، فقد خلق لنفسه أجواء في هذه المناسبة، وأصبحت مع الوقت تقاليد متعارف عليها ليومنا هذا ملأت بيته بهجة وتفاؤلاً. فنواة البلح في وجبة رأس السنة قصة سنوية في كل أسرة حيث يتم وضع قطعة من الشحم و نوى التمر وسط عجين البازين، ويُعدّ من يلتقط الشحم أو النواة عند الأكل إنسان محظوظ يُعتقد بأن عامه المقبل سيكون عام خير. وهناك مثل يقول (من وجد التمر يأتي حصاده وفير، ومن وجد الشحم يكون قطيع غنمه كبير).

التقويم ذاكرة فلاحية
تحدث لنا الخال عبد الله عن الاحتفالات في الماضي، فقال إنها كانت عفوية في هذه المناسبة، وكان الأهالي لا يتعمقون في التاريخ والاحتفال بتنصيب شيشنق فرعوناً على مصر بقدر كبير. ولكن كان إحياء الاحتفال برأس السنة مرتبط بمناسبات تمس حياتهم اليومية. و كانت السنة الأمازيغية أجندة خاصة بالزراعة والرعي والطقس، لهذا فإن هذه المناسبة بمثابة بداية لسنة عمل وزراعة وحصاد، وليست لتخليد مناسبة قديمة فقط.
استمر الناس في ممارسة هذه الطقوس حتى في العهود الحديثة، وفي أغلب المناطق في شمال أفريقيا حتى غير الناطقة باللغة الأمازيغية منهم، لأن هذا التاريخ لا زال راسخاً في الذاكرة الشعبية، ولا زال هذا اليوم مميزاً في حياة الإنسان في هذه المنطقة، لأنه مرتبط بحياته ومعيشته.
بقيت هذه الطقوس والمعتقدات روايات شفويّة يتوارثها الأمازيغ عبر الزمن. ومن باب الاهتمام بالثقافة الأمازيغية المتجذرة في شمال أفريقيا، يستمر الأمازيغ في ليبيا في إحياء ذكرى هذه الطقوس والتقاليد، لكي تبقى وتصل إلى الأجيال القادمة.

قرة العتز حكاية من رأس السنة
قِدَم هذه المناسبة في جذور التاريخ جعل من الحكايات الخرافية حاضرة والقصص الأسطورية متواجدة. فالأسطورة الأمازيغية تقول إن هناك عنزة تحدّت الطبيعة فخرجت تسرح وتمرح في الغابة، وتشمتت في الشهر العاصف يناير بعد أن غادر، فقام هذا الشهر باقتراض يوم من فورار أيّ (فبراير) لمعاقبة هذه العنزة. فأتى اليوم الإضافيّ بالعواصف والثلوج حتى لقيت العنزة مصرعها، ومن هنا أُطلِق اسم قرة العنز على الليلة الأكثر برودة في فصل الشتاء.

مقالات ذات صلة