المصالحة فرض عين أم كفاية؟

توالت الأحداث تباعًا في ليبيا بين صلح ووئام ثم عداء وانتقام. سنوات ضاعت في الفرقة والتشتت والفتن و الحَميّة، حمِيّة الجاهلية. الجميع تعرض لألم الفقدان سواء من أعظم الفقد وهو الموت، أو مما يفوقه ألمًا وهو المفقود غير معروف المصير. الألم يعتصر الذين خسروا من يُعيلُهم أو من يعُولون، من فقدوا بصرهم وسمعهم وأطرافهم، ومن تعرضوا للأزمات النفسية الشديدة، ومن خسر بيته وأرزاقه وأمواله.

ومن كان يحلم بالبيت الجديد والعيش الرغيد، صار يهرول كل ليلة إلى بائع الموت البطيء ليشتري منه حبة أو كأسًا يهرب به من واقع فرض عليه إلى وهم تمتزج فيه النشوة بالبؤس بالخبائث.

يعتصر الألم من كانت تنتظر خطيبها لتبدأ معه رحلة جديدة، ولتعيش معه عيشة رغيدة، فيعود إليها في كفن، فلا هو يعلم فيم قُتِل، وإن علمت هي، فلا يعيد ذلك لها أملًا اللهم إلا قربًا من الله رجاء إلهامها الصبر والاحتساب وطلبًا لصلوات من ربها ورحمة. الألم يعتصر الأم التي فقدت أبناءها في محن تتابعت لم تمهلهم التفكير، فدائرة الانتقام التي وصلت إليهم لم يكن من السهل أن تتجاوزهم. الألم يعتصر الطفل الذي لألأ الدمع على خديه شوقًا لأبيه الذي احتضنه ذات ليلة وهمس في أذنه (أحبك، ولكنها الحرب).

دائرة الانتقام أو الثأر هي من أشد العلل التي عصفت بأمم خلت، وأدت إلى موت ما لا يحصى من الأرواح، وستظل كذلك إن لم نتصدى لها كلّ في مكان عمله ودراسته ومجلسه. من بداية بعثته أمر قدوتنا الحسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح لأنه خير، وفي سيرته العطرة الكثير والكثير من المواقف البهيّة لخير البرية، وأعظمها، وكلها عظيمة، كان قوله ﷺ (اذْهَبُوا فَأَنتُمْ الطُّلَقَاء). هدى نبوي لا ينطق عن الهوى بنى لهذه الأمة مجدًا وأصل لمفهوم الحضارة والعيش لإحياء النفس وإعمار الكون، وما المؤاخاة بين الأوس والخزرج إلا آية ومثلًا لكل المصلحين حتى حين.

ولعل في موقف سبطه حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) قد تجلت أسمى معاني الإصلاح ودرء الفتنة بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم، والتي بفضلها عاش أسلافنا قرونًا من النهضة في الفتوحات والعلوم والحضارة بأقسامها وصلت إلى أقاصي الأرض، حتى رجعت الأمة لعصبية الجاهلية ورضخت لمخططات المتربصين، فصارت مُهانة بعد أن هان على أتباعها أنفسهم واستسلموا أمام دعاوى الثأر والسلطة على حساب قيم الإسلام السمحاء، فهانوا على كل ذي مطمع.

دائرة الانتقام، هي كالجذوة التي كلما وجدت من ينفخ فيها اشتعلت، وإذا ما عصفت الرياح من مكان بعيد من وراء البحر سواء الأحمر أو المتوسط تسعّرت نارها فاستصعب علينا إخمادها، ناهيك عن منع اشتعالها من جديد.

بوضع المكبر على خريطة الأرض التي يسكنها مليارات من عديد الأعراق والمشارب، نجد الأرض التي حملتنا فظلمناها، لـيــبـيـا. عشر حروب على الأقل باختلاف دواعيها وأماكنها وعدد معاركها عصفت بهذه المنطقة الصغيرة، إذا ما رفعنا عنها المكبر، والتي لا يزيد عدد سكانها عن 7 ملايين، شاملًا المرتزقة متعددي الجنسيات والأديان والألوان واللغات والمهارات، أكلت الأخضر واليابس، وغيرت المفاهيم والأولويات.
اشتغل مدعو السياسة والحكمة ومن قيل بزعمهم أنهم حكماء وعقلاء بتبريرها بشتى الحجج، فمنها واهية ومنها غير ذلك، ولكنهم غفلوا جميعًا عن الجيل الذي كبر في خضم كل هذه المتناقضات. بل وضيعوا في متاهات صراعاتهم المصطنعة القلة المؤثرة التي يقع على عاتقها تعليم النشء وإصلاح ما قصّر فيه الآباء والأمهات في البيوت، وهم المعلمون والمشايخ والذين كان لهم الدور الرئيس في منع هكذا فجور في الخصومة منذ (الحتحات الإدريسية). ولا شك أن التركة التي سيحملها الشباب الآن من قرارات النخبة التي فرضها الغريب وأصّل لها القريب ثقيلةٌ تنوء بأولي القوة منهم، وسيكون على عاتقهم إصلاح كل هذه المآزق المالية، والأزمات النفسية، والخطيئة الحضارية. وميم الجمع هنا تجمع ميم الجمع للذكور ونون النسوة.

وبالعودة لدائرة الانتقام التي دارت من جديد ولعشرات السنين، استبشر الكثير منا ولو على مضض بمشاهد التصافح والسلام. لكننا نحتاج لأن يؤخذ بالأسباب لتأصيل السلام في أذهاننا وأفعالنا قبل دستورنا وقوانيننا. كل ما علينا هو النظر إلى مشاهد الصلح في ماضينا القريب عندما كان الحكماءُ حكماءً والأعيانُ أعيانًا. عندما سادت الحكمة بدل الغوغائية، والعدل بدل الظلم، والصلح بدل الفتنة، فقد كان ميثاق الحرابي الذي كتب عنه المؤرخون واستشهد به العديد من المدونين رمزًا للمصالحة من أجل المستقبل. عندما قال الملك محمد إدريس السنوسي مقولته الشهيرة (حتحات على ما فات) استجاب له الجميع، لماذا؟ لأنهم أدركوا جميعًا أن المصير واحد، وأن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، ويبغض الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعًا. وفيما روي، أنه قبل ذلك بسنوات وبعد انتهاء الحملة البريطانية على السنوسية لصد هجومهم على مصر فيما عرف بالحملة السنوسية Senussi Campaign، علم السيد أحمد الشريف السنوسي رحمه الله أن فتنة قد تلوح في الأفق، وحرصًا منه على قتلها في مهدها، ولفراسته وعلمه الغزير وخبرته السياسية والعسكرية وطيب نشأته ورجاحة عقله -وهو الذي جاهد ضد المحتل الفرنسي في تشاد والإيطالي في ليبيا والبريطاني في مصر- غادر عبر العقيلة، حرصًا على صورة القيادة السنوسية ووحدتها، وتماسك النسيج الاجتماعي، واستمرار العمل البطولي ضد المحتل الإيطالي.

ولعلم كل المتآمرين على ليبيا بأهمية (الحتحات الإدريسية)، فقد سعوا إلى استدعاء عداوات ومشاكل من مئات السنين لتأجيج الفتنة فيها جيلًا بعد جيل عملًا بقاعدة (فرّق تسُد اللاتينية) divide et impera. ولذلك، فلا عجب إن استدعت ذات القوى المتربصة أحداث العشر سنوات الماضية لإشعال حرب ما بعد سنوات، وإعادة تدوير دائرة الانتقام من جديد.

يتساءل قارئ: وما الحل؟ هل نبيت في رحالنا وننتظر الحكومة تلو الحكومة تقدم لنا السلام وتضمن تمكينه بندوات وبوفيهات وصور بعنوان سررت بمعرفتك وتشرفت بلقائك؟ هل نحسن الظن بالمتربصين ونصم آذاننا عن ضوضائهم حتى ينسون وجودنا؟ هل نغني أغاني الوحدة، ونعزف أوركسترا السلام، ونطيّر الحمام، ونغير صورنا في وسائل التباعد الاجتماعي إلى #ليبيا_نحو_الوئام؟

ويتساءل آخر: ومن يدفع التعويضات، ويجبر الأضرار؟ كيف تطفئ النار وتقطع دابر الغل والثأر؟ هل يصلح الصلح من غير القصاص؟ ألا لا يفل الرصاص إلا الرصاص؟

ويجيب ثالث، وربما ثالثة: لا أعرف الأجابة، ولكني أعرف أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. أعرف أن دائرة الانتقام وجب أن تكسر بثنائية القسط والصلح. القصاص فيه حياة، والصلح خير. الصلح يبدأ بالتصالح مع النفس ومكاشفتها بأخطائها وزلّاتها وتهذيب عصبيتها وعنادها، والبقية يتحمل مسؤوليتها المصلحون من المؤثرين في مجتمعنا من مشايخ ومعلمين ودعاة وأهل القضاء، وطبعًا الحكومة بوزاراتها التي بعدد أيام الشهر، والمجلس الرئاسي، فالمصالحة لا شك أنها كفرض العين تجب على الجميع.

ولحديث القلم بقية إن شاء الله.

مقالات ذات صلة