ثقافة
29.01.21

الأمريكيون يختارون رئيس العالم!

"ليس عدلاً أن ينتخب الأمريكيون وحدهم رئيس العالم"... جُملة ساخرة كتبها أحدهم خلال الانتخابات الأمريكية، لكنها مع هذا لا تخلو من جدّية، فشعور الملايين حول العالم بأهميّة ساكن البيت الأبيض، وإدراكهم للصلاحيات الكبيرة التي يمتلكها زعيم أقوى دولة في العالم؛ هو ما جعل الانتخابات الأمريكية وتداعياتها، تنال النصيب الأكبر من المتابعة والتحليل على المستوى الشعبي، حتى ممن لم يُعرف عنهم الاهتمام بالسياسة. ومع ذلك فالجملة السابقة تحمل مفارقة طريفة: وهي أن الاعتراف بشرعية "رئيس العالم" المقبل، ما يزال محل أخذ ورد في المجتمع المعنيّ به في المقام الأول، الذي يشهد انقساما داخليا حاداً، ندَر وجوده قبلاً في تاريخ البلاد.

وليس احتدام المنافسة في هذه النسخة من الانتخابات، وما رافقها من استقطابات مشحونة وإقبال كثيف؛ هي وحدها العوامل التي كفلت للانتخابات الأمريكية هذا الاهتمام الحماسي، بعد شهرين من حسم أمر السباق؛ بقدر ما أثارته طبيعة أحد الناخبين: الرئيس ترمب، بشخصيته النزقة وهواجسه المؤامراتية، واستعراضاته الخطابية التي تفتقد إلى الرصانة المعهودة في زعماء العالم الغربي. لذلك عمّ العالم ذهول وصدمة كبيران، برؤية عرقلة انتقال السلطة عند "قائدة العالم الحر"، وانزلاقها إلى فوضى عارمة، لم تكن تُشاهَد سوى في "جمهوريات الموز".

ومع التصديق على فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، بانتظار إعلان تنصيبه رسمياً في العشرين من الشهر الجاري؛ فهذه بعض الملاحظات التي تقال فيما جرى قبل الانتخابات وما بعدها في هذا الحدث الذي شغل الدنيا وملأ الناس.

1. ترمب ليس شعبوياً فحسب، فالشعبوية رغم كل النقد والسباب الموجه لها، تبقى لها أسس وجيهة تقوم عليها، بغض النظر عن مدى صوابها. وهذه يقف ورائها ساسة، ومدارس فكر واقتصاد، وتقاليد سياسية وثقافية معقدة.
ترمب ليس كل هذا، هو خليط من عدة أشياء كريهة: جاهل، عدواني، نرجسي، كاذب وقح، انتهازي، فهو يمثّل النقيض الصارخ للسرديّة المثاليّة التي أقيمت وفقها الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو فوق كل هذا متحدث جيد، وماكر، بارع في استغلال الأخطاء الكامنة في مؤسسات الحكم الأمريكية، وارتباطاتها مع المال والإعلام والأكاديميا والثقافة عموماً. وبقدر ما استغلّ فقد استُغل هو بدوره، من قبل قوى لا تقل عنه انتهازية، وإن كانت دونه في الحمق والمكابرة.
هذه الصفات البشرية جميعها يمكن ببساطة أن تتواجد في أي شخص دون أن تكون مشكلة. الكارثة ستقع عندما يتولى هذا الشخص حكم أقوى بلد عرفته البشرية في تاريخها.

2. "الترمبية" ستبقى بعد رحيل دونالد ترمب، دون حتى أن يؤسس حزبا بالضرورة، أو تخوض أسرته الانتخابات التشريعية والرئاسية مستقبلاً. سرعان ما يعود الإنسان إلى غرائزه البدائية الأولى بكل ما تحمله من أنانية وهمجية، حالما تتاح له الظروف المواتية، فينزع عنه ثياب "المدنية" وكل ما عرفه من قيم التحضر السلوكي والترقي العقلي. لم تخلق "الترمبية" هذه الغرائز من عدم، هي فقط أتاحت لها بقوة منصب الرئاسة، ومقدرات الدولة، وبروباغاندا الخطاب الديماغوجي المضلّل، الذي يلعب على مشاعر الخوف والأمل؛ أن تعبر عن وجودها بوضوح فاقع، وصراحة فجّة، مستغلة مرة أخرى مشاكل بنيوية، في السياسة والاقتصاد والاجتماع الأمريكي. هذا الخطاب الذي قاد تجربة حكم ترمب، سيستمر في التأثير، وربما سيتحول تيارا فكريا مؤطراً، لم يخلُ من المنظّرين والأنصار قبلاً. غير أن ترمب هو من منحه "الشرعية"، بحكم منصبه، ليكون في القلب بدل الهامش، وعن طريقه أيضا، استطاع الوصول إلى الحكم في الولاية الأولى، وكاد أن يكررها ثانية، لولا لطف السماء، وبقية من عقلٍ لدى الناخبين.

3. مرة أخرى تثبت الديمقراطية أنها أرقى نظام سياسي/اجتماعي عرفه الإنسان طوال تاريخه المديد، أو هو "سيء، لكنه أفضل نظام اخترعه الإنسان" كما تقول العبارة المنسوبة لتشرشل. النظام الديمقراطي في هذه الانتخابات المرهقة أظهر قوته القادرة على إزاحة رئيس عدواني يحظى بتأييد نصف الشعب تقريباً بعدد أصوات هائلة وبتعيينات قياسية للموالين في القضاء والإدارة، وكان ليفعل المستحيل ليبقى. كل هذا وسيرحل -رغم كل تحريضه للغوغاء من جمهوره- دون أن يتدخل الجيش بانقلاب، أو تندلع حرب أهلية تُقصف فيها المدن وتحاصر، أو تقام معسكرات الاعتقال ومخيمات اللجوء، ويعلَن النفير العام لـ"محاربة الإرهاب" وإنهاء فوضى "المتآمرين" على مقام الزعيم المعبود حامي حِمى الوطن. ها هي الديمقراطية تفوز بأصعب اختباراتها، وعلى المبشّرين بـ"أفول الديمقراطية" في مواطنها أن يتفضلوا باقتراح نظام بديل يؤمّن اجتماعاً إنسانياً يضمن الحد الأدنى من التعايش السلمي الكريم.
4. انعزالية ترمب وأنانيته، في كثير من القضايا الدولية؛ كشفت أن تكلفة انسحاب الولايات المتحدة عن الانخراط في الشؤون الدولية، أعلى بكثير من تكلفة تدخلاتها. قَـدَر أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن تكون "شرطي العالم"، بما تتمتع به من إمكانيات لا تتوفر في غيرها. وإذا كانت أمريكا "الشيطان الأكبر" كما يسميها ملالي إيران وبعض القوميين من أصحاب الفكر العتيق واللغة الخشبية؛ فإن ضباع العالم الصغيرة والكبيرة، ليسوا بالملائكة حتما.

مبارك لأمريكا والعالم طيّ صفحة 4 سنوات من عروض السيرك الكابوسية المرعبة. الأمل أن يقود بايدن أمريكا ومن ورائها العالم إلى بعض من التوازن والرشاد، وإن كانت تجاربنا البشرية وواقع هذه الأيام الرديئة لا يسمحان بكثير من التفاؤل.

مقالات ذات صلة