الدكتـور ألبيرتـو يتذكّـر أيامـه الليبيـة

الدكتـور ألبيرتـو يتذكّـر أيامـه الليبيـة

في كل حقبة من التاريخ الوطني لبلد ما، قريبه وبعيده، يتم التأريخ لها وتسجيل وقائعها، وذلك برصد نمط الحياة السائد فيها، من ملامح اجتماعية وثقافية، وتقلبات سياسية واقتصادية. وتختلف طريقة تسجيل هذه الوقائع باختلاف منهج الكاتب ونظرته في تناول الأمور، كلية كانت أم جزئية، تكتفي بتدوين المشاهدات أم تتجاوزها لإصدار الأحكام ووضع المعايير، لما يراه خطأً أو صواباً، منطقياً أو غريباً.

وخلافاً لمعظم البلدان ذات التراث التاريخي العريق، والأحداث السياسية العاصفة والمتقلبة؛ فإن ليبيا -للأسف- تفتقد لما يمكن اعتباره توثيقاً تاريخياً لأحوال البلاد في عهودها القريبة والوسيطة، حيث بقيت الكتابات -على قلّتها- محصورة بالدراسات الأكاديمية المقتصرة ضمن نطاق المتخصصين، والمجهولة عند جماهير القراء. فيما تلك الكتب التوثيقية، التي كُتبت ممن عاصروا تلك الأحداث، فأُلفت معظمها، من قبل غير الليبيين، من الإيطاليين والإنجليز الذين تعاقبوا على حكم البلاد، أو من خلال الرحّالة التجار أو السياسيين الأجانب، الذين ألقت بهم رحلات العمل إلى ليبيا. وبالرغم مما قد تثيره الرواية الأجنبية، من توجسات ومخاوف لـ"رؤية استشراقية" قاصرة ومشوِّهة للواقع، فإنها من ناحية أخرى، ربما تقدم توثيقاً مهماً لما كان عليه المجتمع في تلك الأزمنة. كما أن طريقة الكتابة وسرد الوقائع بنظرة خارجية، قد تكون خالية من التحيّزات واللغة العاطفية، التي ربما ترافق التوثيق المحلي الذي يقوم به المواطنون المحليون لتاريخ بلادهم.

من هذه الكتب التي رصدت بعضاً من ملامح الحياة في ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين، كتاب ألّفه الطبيب الإيطالي (ألبيرتو دنتي دي بيرانيو - Alberto denti di pirajno 1886 – 1968. ). بعنوان: (طبيب بإفريقيا: أو علاج للثعابين). وقد ترجمه طبيب آخر، هو الليبي (عبدالكريم أبوشويرب) تحت عنوان: (قصص طبية من ليبيا*) ونُشر سنة 2006 عن الجمعية الليبية لتاريخ العلوم الطبية.

(.د.ألبيرتو دي بيرانيو)

في هذا الكتاب، يروي الطبيب الإيطالي تفاصيل مثيرة، لمشاهدات عايشها خلال تنقلاته في المدن والقرى الليبية، من خلال مسيرته الشخصية، التي بدأها كطبيب مرافق للحملة الاستعمارية الإيطالية، وأنهاها كحاكم لمدينة طرابلس، قبل أن يقوم بتسليمها للإنجليز الذين هزموا الجيش الإيطالي وسيطروا على ليبيا. والكتاب مُرفق بصور الطبيب، ولبعض الشخصيات التي عملت معه، إضافة لصورٍ من معالم المدن والمناطق التي عمل بها أو زارها.

وقد جاء أسلوب الكاتب -كما ذكر المترجم- بصياغة سلسة، أقرب للسردية الروائية. وقد اعتمدت كتابته لمشاهداته، على تصوير الحوادث ونقلها كما عايشها أو رآها في أطوار مختلفة، دون تدخل كبير في إطلاق الأحكام والتوصيفات، وإن لم يخلُ الأمر بطبيعة الحال من إيراد الانطباعات وإبداء الآراء، في كل ما يطرأ له من مواقف، سواء أكانت من حالات طبية أو شخصيات اجتماعية، مما يجعل الكتاب أقرب للمذكرات الشخصية، منه لكتب التأريخ الدقيقة.

عـادات واعتقـادات:
على مدار صفحات الكتاب، وبحكم عمله، وتنقلاته الكثيرة، دائماً ما يُفاجَأ الطبيب بعادات ومعتقدات السكان المحليين، التي يعرضها وافية في مذكراته، حتى وإن اعترف بعدم استيعابه لها. وإن كان طول إقامته بليبيا ورحلاته لمختلف المناطق فيها، وعقده لكثير من العلاقات والصداقات، قد ساعده كثيراً على التأقلم مع العادات والمعتقدات المحلية، التي كانت سائدة آنذاك.

من ذلك ما يرويه عن إعجابه ببساط تقليدي ليبي، أبدى الطبيب رغبته بشراء واحد مثله، وعندما قيل له إنه يحتاج لخمسين يوماً كي يكون جاهزاً، اعترض الطبيب لظنه أن المدة غير كافية لإنجاز عمل معقد كهذا، لكنه قوبل برد حازم من قِبل صانعي هذه البُسُط، مفاده أن تقديرهم دقيق ولا يخطئ. وبالفعل؛ بعد أن دفع المبلغ مقدماً، وبعد خمسين يوماً من الانتظار، وصل البساط وقد شُحن على ظهر جمل إلى بيت الطبيب، وعندما فتح البساط، وجد ورقة بخمسٍ وعشرين ليرة، ثُبتت بسعفة نخيل، كانت هي ما تبقى من المبلغ المدفوع!

كذلك حكايته لما رآه في مدينة (مزدة)، على يد (فصودة) مروّضة العقارب، التي استضافته لشرب الشاي، لتتحدى معرفته في التخلص من سم العقارب، التي أكد لها الطبيب خطورتها وسُميتها القاتلة، قبل أن تذهله ب"تعويذتها" العجيبة، التي قامت من خلالها بترويض العقارب وشلّ حركتها، دون أن يؤثر فيها سمها رغم تعرضها للذغاتٍ منها!

وأثناء زيارته لضريح الشيخ (عبد السلام الأسمر) في مدينة (زليطن)، يروي الطبيب مشاهداته فيقول: وفي هذا المكان تُنحر الذبائح والأضاحي المزيّنة بالورد خلال أيام العيد وأيام الحج والمولد النبوي، ويأتي الآباء الذين كانوا وعدوا ونذروا لهذا المقام إذا رُزقوا أولاداً، فيأتون إلى هنا ليوفوا بوعدهم ويذبحوا الأضاحي في ساحة فناء المبنى. ثم يستطرد قائلاً: ولازال بعضهم يعتقد أن الماء ينضح من جدران القبر، ويظنون أن هناك ماء جارٍ صافٍ كالبلّور في الجرّة التي كان يتوضأ منها الولي، والتي دُفنت معه في القبر، ظانّين أن هذا الماء يعالج الحُمى وكثير من الأمراض الجلدية عند الاغتسال به.

(د.ألبيرتو مع الممرضيْن: محمد الدرناوي وعيسى بن يحيى)

وفي أثناء عمله في مخيم "بير الدوفاني" بمدينة (مصراتة)، يروي الطبيب ما حدث له مع السيدة (أم عبدالله) والدة زعيم العشيرة، والتي وصفها بأنها رئيسة القبيلة الفعلية، بأوامرها الصارمة وعينيها الثاقبتين، بحيث لم يكن أحد يعصي لها أمراً، بمن فيهم ضيفها الطبيب الذي علّمته دروساً في آداب الأكل: الأكل باليمنى فقط، ولا يأكل الإنسان بكل أصابعه، بل بثلاثة فقط. كما تعلّم منها كيفية عجن لقمة صغيرة من السميد أو الأرز أو اللحم لحجم مناسب، مستعملاً الإبهام والإصبعين فقط، كما تعلم طريقة الجلوس السليمة بتقاطع الرجلين على البساط، وكيفية انحناءه من الأرداف، مصوّباً نحو الصحن في مركز المائدة، والتقاط اللقمة، دون تقطير أي قطرة من المرق على ملابسه، ودون إزعاج الآخرين. وقد كان خلال تعلمه هذا أشبه ب"قروي" على حد تعبيره!


مكانـة المـرأة:
النساء دوماً حاضرات في فصول الكتاب، وقد أشاد الطبيب دوماً بقوتهن وحكمتهن في تسيير الأمور داخل العائلة أو العشيرة، ولا تجد خلال صفحات الكتاب عرضه لأي نوع من اضطهاد ذكوري لهن، وحتى القهر والإجبار الذي ربما تتعرض له النساء أحياناً، يأتي من نساء مثلهن، بحيث يبدو وكأنّ دور الرجل كان "هامشياً" في تلك الأزمنة!
يقول مثلاً عن العجائز اللاّئي التقى بهنّ في مخيم (بويرات الحسون): هؤلاء السيدات كن قد تزوجن مبكراً، ويبدنّ مرهقات من جرّاء تعدد الحمل والولادة والأعمال الشاقة، مما يجعلهن يفقدن نظارة الشباب في وقت مبكر من أعمارهن، ولكي يعوضن هذه الشيخوخة المبكرة؛ فإنهن يمسكن بزمام السلطة في المنزل والمجتمع، وفعلاً قد فرضن سلطة وهيمنة جليّة في مخيمنا هذا.

ويتحدث عن المرأة في مجتمع الطوارق بإسهاب وإعجاب كبيريْـن، كيف أنها تحتل مكانة مميزة في الأسرة والمجتمع، وعن إتقانها القراءة والكتابة باللغة العربية ولغة "التفنار"، وهي التي تعزف على "الرّبازة" التي هي أشبه بالقيثارة أو الربابة. ويُعلل الكاتب في اعتقاده لهذه المكانة التي تحظى بها المرأة هنا، إلى نظام الأمومة القديم الذي كان شائعاً في الصحراء، لذلك فإن المرأة في المجتمع التارقي ذات شخصية قوية مستقلة، فهن لا يُشرفن فحسب على اقتصاد القبيلة وتجارتها، بل لها الحرية الكاملة في اختيار شريك حياتها، لأنها تُعد نفسها لمسؤوليات جسيمة داخل القبيلة. ثم يختم الكاتب توصيفه للرجال مقارنة بالنساء في هذا المجتمع، بأنهم أشبه بذكور النحل في خليتهم، في إشارة للمكانة "الملكية" التي تتمتع بها المرأة التارقية.

ويتحدث عن (تارا بنت أساكن) من مدينة (غـات)، فيقول إنها هي الرئيسة فعلاً، وأنها كانت تمسك بزمام الأمور في المجتمع، وتدير دفة العلاقات داخله، وقد استطاعت القبيلة أن تتكاثف وترى أياماً سعيدة، بفضل حكمتها ورجاحة عقلها.

متاعب مهنـة:
لا بد أن يحدث اصطدام بين ما يحمله الطبيب الأوروبي القادم من وراء البحار، وبين ما استقر في أذهان الناس وتصوراتهم، حول طرق تشخيص الأمراض والتخلص منها.

ومن القصص الطريفة التي جرت للطبيب الإيطالي، ما وقع له مع أحد أعيان مدينة (مصراتة) الذي كان معروفاً بتواضعه وبساطته، لكنّ هذا الشيخ كان يشكو من ألم مبرّح في بطنه، ولم تتمكن كافة الأدوية التقليدية من علاجه. فاتجه إلى الطبيب زاعماً أن سبب مرضه يرجع إلى ابتلاعه ثعباناً أثناء نومه أحد الأيام بوادي سوف الجين، ومما أكد له هذه الرواية، رؤيته لأبيه في المنام، وإشارته له بوجود الثعبان في بطنه. لم يفرز الفحص الطبي شيئاً، كما لم يفلح شرح الطبيب المتكرر من تهدئة بال الشيخ المتيقن من كلام والده الذي رآه في المنام، فلم يكن بيد الطبيب سوى أن يعِـده بإجراء عملية لاستئصال الثعبان، وعندما حضر الشيخ للمستوصف، قام بتخديره وفتح بطنه، ومن ثم قام بخياطتها، وكان قد طلب من مساعده إحضار ثعبان لإقناع الشيخ بنجاح العملية، وهذا ما حدث. وتوالت الأيام، وشعر الشيخ بتحسن، وفي أحد الأيام عندما كان الطبيب في ضيافته، أخبره بخدعة العملية، وأن الذي كان يعانيه الشيخ لم يكن سوى وهماً، فلم يكن من الشيخ إلا أن يُسلّم بقول الطبيب مذهولاً.

كذلك يتحدث عن (الفقيه بلقاسم) الذي لا هو بالشيخ ولا بالطبيب، ومع ذلك يؤمن بقدرته على شفاء النساء بطرق غريبة، وقد حضر الطبيب إحداها دون أن يفهم شيئاً!

(د. ألبيرتو يمتطي إحدى المهاري)

قصة عجيبة أخرى يرويها الطبيب، ففي أحد الأيام جاءه شاب من مكان بعيد حاملاً له رسالة، كانت موجهة من أحد شيوخ القبائل، الذين قام الطبيب بعلاج ابنته قبل عشر سنوات. فحوى الرسالة كانت تبعث بالتحايا إلى الطبيب، وتخبره بأن الشاب حامل الرسالة، يريد الزواج من ابنة الشيخ التي قام الطبيب بعلاجها، وبما أن الطبيب كان السبب في انقاذ حياتها، فقد أصبح بمثابة الأب لها، ولذا فإن الزواج لن يتم سوى بموافقته، فما كان من الطبيب سوى أن يتعجب من الأمر، لكنه وافق على الزواج، وأهدى للعروس خلخالاً من الفضة.

الأيـام الأخـيـرة:
غادر الطبيب ليبيا متوجهاً إلى الحبشة (إريتريا) سنة 1930. لكنه عاد إليها كوالٍ على مدينة (طرابلس) أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي كانت ليبيا إحدى مسارحها العديدة، التي تصارعت فيها بريطانيا من جهة، ضد ألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى.

استغرقت مدة ولاية الطبيب على طرابلس عامين فقط، ولا يُسهب الكاتب كثيراً في تصوير أحوال البلاد أو المدينة اثناء الحرب، فقط استعرض باختصار هزيمة الجيش الإيطالي وانسحابه إلى تونس. واستسلام ما تبقى من جنود وإداريين للقوات البريطانية، التي طلبت منهم الاستمرار في أعمالهم لحين إجراء انتقال منظّم للأعمال.

وبصفته والياً على المدينة، استقبل الطبيب، الجنرال (مونتغمري) قائد الحملة البريطانية في ليبيا. وبعد حوار قصيرمعه، عرف الطبيب أن إقامته في هذا البلد التي استمرت 24 سنة على فترات متقطعة قد انتهت، ويختم مذكراته على نحو درامي قائلاً: تركنا المنزل وصعدنا سيارة "الجيب" العسكرية، وبعد أن بدأت السيارة تتحرك سمعتُ خلفي انغلاق دفتيّ البوابة الحديدية بقوة شديدة، لقد كان محمد يُقفل البوابة الرئيسية، ولكنها بدت لي كأن مستوصفي الأخير يُقفل لآخر مرة.

*صدرت حديثا عن دار الفرجاني ترجمة أخرى للكتاب، تحمل ذات العنوان الأصلي، قام بها الكاتب جمعة أبوكليب.

مقالات ذات صلة